قبل أشهر حين كان يتعالى الحديث عن "تحالف الأغلبية الكونكريتي" وعن اتفاق استراتيجي بين الديمقراطي والسيادة والتيار الصدري بشأن مطالب الإقليم، وعن ورقة مكتوبة تضمن الحقوق والمطالب وتعكس الطريقة التشاركية في إدارة الحكومة المقبلة. نبه كتاب وصحفيون في الإقليم أن تلك الورقة "كلام إنشائي" لا قيمة له، وأن التيار مثل بقية القوى يمكنه أن يوقع على أي شيء ويؤكد التزامه، وبعدها بسنوات يعلن أن الظروف لم تسمح بتطبيق المطالب.
ما تزال قيادات إقليم كردستان تتمسك برؤيتها المتفردة ومصالحها الحزبية
ومنذ أيام يتصاعد الحديث عن تفاهمات إيجابية مع قوى "الإطار التنسيقي"، ويُنقل كلام عن اتفاقات "ضامنة وقوية" فضلًا عن الإشارة إلى بيان القوى التي شاركت في اجتماع البرلمان الأخير، وتأكيدات عن وجود ورقة أو اتفاق مكتوب. ويكرر كتاب وصحفيون في الاقليم ذات الرأي السابق: لا وجود لاتفاقات حقيقية ولا قيمة لها إن وجدت وحتى إن كتبت بتفاصيل محددة، فالمطالب الكردية لن تجد طريقها للتطبيق، لأسباب كثيرة أولها "ضعف الإقليم" مقارنة بسابق عهده، حتى وإن كانت بغداد منقسمة بقياداتها وفي أسوأ أوضاعها السياسية.
واقعًا التعقيدات الداخلية في كردستان تزداد وإزمات الإقليم تستفحل:
- اقتصاديًا، وعلى خلفية ملف إدارة النفط وقرار المحكمة الاتحادية، هناك شركات نفطية بدأت بالانسحاب أو تفكر بذلك.
- أمنيًا، هناك صواريخ تسقط بشكل شبه يومي على الإقليم ولا إمكانية لردعها.
- قانونيًا، تتصاعد ضغوط وزارة النفط والملفات القانونية التي تحركها داخليًا وخارجيًا.
- سياسيًا، المطبات والعوائق تزداد، والأحزاب الكردية تؤجل الملفات المهمة، ولا تعمل على توحيد مواقفها المتشظية رغم تداعياتها السلبية، وحتى إجراء الانتخابات في موعدها بات أمرًا من الماضي.
- إقليميًا، هناك استسلام للقصف التركي اليومي وتعايش معه، كما القصف الإيراني المتكرر، المباشر أو عبر أذرعها من جماعات حشدية وغيرها.
- دوليًا، الأمريكيون كما الحلفاء الغربيون المفترضون، ساكتون "الأمر لا يعنيهم" فهناك ملفات أكبر بكثير تشغلهم.
- هناك أزمات ومشاكل داخلية كثيرة تتعلق بحياة المواطنين، وترتبط بصراع القوى المشكلة لحكومة الإقليم، وبواقع الإدارتين على الأرض، وبحقيقة البرلمان المشلول، وبتعقيدات ملف الواردات النفطية وواردات المعابر الخاضعة لإرادات حزبية.
رغم ذلك، فإن قيادات الإقليم مازالت متشبثة برؤيتها المتفردة ومصالحها الحزبية ما يديم انقساماتها، وبعضها يكرر خطابًا غريبًا: "لن تستطيع حكومة بغداد فعل أي شيء.. ما يحصل من انتهاكات حسد عيشة.. فلتتحرك لحل أزماتها المستفحلة أولًا.. هي دولة بلا حكومة غارقة في الفوضى الأمنية والسياسية".
خلافات الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي لا تتعلق بملف واحد صغير (مثل ملف منصب رئيس الجمهورية الذي يمكن أن يحسم في دقائق) بل تمتد إلى سلسلة ملفات حساسة (إدارية وأمنية واقتصادية) لم يتم معالجة أي منها، بل لم تحصل اجتماعات حقيقية لبحثها، فكيف بمعالجتها؟!
وواقعًا أن هذه المشاكل لا يكمن حلها في بغداد، بل في كردستان أولًا وربما أخيرًا، فالحزب الديمقراطي يحتاج إلى مراجعة عميقة لسياساته وطريقة إدارته (هل الإقليم فعلًا بخير ويسير على الطريق الصحيح؟) وإدراك التحديات الكبيرة. والاتحاد الوطني يحتاج إلى صالة عمليات كبرى لإنقاذ نفسه من مشاكله العميقة التي وصلت إلى حد عزل القيادة السابقة للحزب (المؤسسة والمقاتلة) بل ودفنها تمامًا عبر مخالفات صريحة للنظام الداخلي وللمبادئ الحزبية.
الحزبان الحاكمان، مازالا يدوران في دائرتي إنكار وجود تلك الأزمات واعتبارها مجرد خلافات ومشاكل طبيعية تحدث في أي مكان، وفي أي نظام سياسي، أو الإقرار بوجودها جزئيًا مع تحميل الأطراف الخارجية المسؤولية الكاملة عنها، دون الخوض في مراجعات حقيقية.
خارج قواعد الحزبين، وبعد سنوات من القتل التدريجي للحياة السياسية، عبر وسائل مختلفة، قوى المعارضة باتت مستسلمة لواقعها و"نائمة كعادتها" ولا تجد نفسها بديلًا (فلا برنامج، ولا مشروع، ولارؤية) هي مجرد مكملة لمشهد الانقسامات، ومتداخلة ببيانات تنبيهية وبلقاءات "لوم وعتاب".
وبعد سنوات من تهميش المجتمع المدني والنخب السياسية والثقافية والأكاديمية المستقلة، واحتكار القرار والإدارة عبر تحزييب كل مفاصل الحياة، من الطبيعي أن لا تجد دورًا أو حتى مسعى لها في "إنقاذ" الإقليم من أزماته، ولو حتى في إطار مناقشة الواقع والتحديات، وما يمكن القيام به للخروج من الدوائر المغلقة التي تضييق على الجميع يوما بعد آخر.