في بداية العام 2023، تلقى أحد مقدمي البرامج السياسية اتصالاً مختلفًا من إدارة القناة التي يعمل بها. كانت هناك إشارات إلى طارئ، لكن أسوأ الأحوال، لم تكن ستشير إلى أنّ مكتب رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، اتصل بالقناة، للمطالبة بمسح تدوينات كتبها على منصة "إكس" (تويتر سابقًا). كان الأمر صادمًا مع الحكومة الجديدة وقتها، ويلوّح أيضًا إلى قادم "غير مريح" لمن يكتب خلاف المزاج الحكومي الذي بدأ يتعاظم داخل المؤسسات الإعلامية في البلاد.
تتأرجح الحالة العراقية منذ عقدين بين الديمقراطية ومحاولات استعادة نموذج الحكم القابض على الفضاء العام
ساورت الشكوك مقدم البرامج في أن الاتصال ربما كان اجتهادًا شخصيًا من داخل مكتب رئيس الحكومة، ولا يعبّر عن توجه صارم، لكن كتابة تدوينات أخرى، أعادت اتصال إدارة القناة وطلب الحذف مجددًا، وهو ما وضعه بين خياري "الاستقالة أو السكوت"، وفق مقابلة أجريت في بغداد.
لم يقبل المقدم أن يكشف عن اسمه لأسباب تتعلّق بالحرج من مؤسسته ووضعه الأمني داخل العاصمة، لكن قبل فترة الاتصال بقليل، عقد رئيس الحكومة، مؤتمره الصحفي الأول في تشرين الثاني/نوفمبر 2022. الصحفيون الذين يتوقون إلى سماع الرئيس الجديد وتوجيه الأسئلة له، وضعت شروطًا صارمة لهم منذ ذلك الوقت: "أعرضوا أسئلتكم على المكتب الإعلامي، ولا أحد يسأل دون الموافقة، وخلاف ذلك هو المنع من الحضور إلى الأبد"، بحسب ثلاثة صحفيين أجريت معهم مقابلات مختلفة.
لم يقبل أي أحد من الصحفيين الكشف عن اسمه أيضًا لأسباب تتعلّق بالخشية من خسارة الوظيفة "في أحسن الأحوال"، إذ لا ضمان في ذلك. يتحدث أحدهم، عن "منع صحفيين إثنين من الحضور لمؤتمر رئيس الوزراء بسبب مخالفتهم شروط المكتب الإعلامي في توجيه الأسئلة".
يتفق الصحفيون الثلاثة على أن منعهم من السؤال بحرية هو إشارة بليغة عن علاقة الحكومة الحالية بوسائل الإعلام وكيف تتعامل معه، إذ أن ما يخرج، هو ما تريد الحكومة أن يكون متاحًا للناس، وحين يعمل أي صحفي على الحديث بملف لا ترغب الجهات الحكومية بظهوره، فإنّ تخلّصه من العقوبة لا يضمن له أن يكون بعيدًا عن الاتهامات الخطيرة، وأبرزها "الابتزاز" أو حتى "المعارضة" التي تتحول تدريجيًا إلى تهمة في العراق.
والعراق الجديد، الذي شهد أزمات مركبة ومعقدة خلال 21 عامًا مر بها منذ الاحتلال الأميركي وإلى الآن، كان يشهد تداول جملة معتادة يهمس بها مقربون من الحكومات المتعاقبة، وهي أن "الديمقراطية تستحق التضحية"، وأن كل ما حدث وسيحدث، بما فيه نزيف الأرواح والخيرات، سيكون ثمارًا للحرية التي حصل عليها العراقيون بعد صدام حسين، حيث كانوا يعيشون في نظام يضع التكاليف الباهظة على الكلام. كان يراد للبلاد أن تكون ضمن خيارات حزب البعث وسطوته الحديدية على الفضاء العام، لكن التضحيات التي قدمت لم تجعل مساحة الكلام في العراق حرّةً إلى الآن، وفق أغلب الذين أجريت معهم مقابلات لكتابة هذا التحقيق.
يتربع على القصر الحكومي الواقع في المنطقة الخضراء وسط بغداد، محمد شياع السوداني، الرئيس الثامن للحكومة العراقية بعد العام 2003، حيث وصل في تشرين الأول/أكتوبر 2022، عبر دعم من قوى "الإطار التنسيقي"، الذي يضم حركات مسلحة من الجماعات الشيعية، فضلاً عن حلفاء آخرين "سنة وكرد"، بحسب التصنيفات المنطلقة من العرف السياسي المهيمن على البلاد.
ومنذ أكثر من عام ونصف العام، يجري الحديث واضحًا عن وجود مضايقات على الحريات وصلت إلى الذروة في عهد سطوة قوى "الإطار التنسيقي" على العملية السياسية، وربما أن إشاراتها بدأت حين لم يمض سوى خمسة أشهر على وجود محمد شياع السوداني في منصب رئيس الحكومة، حتى تم اعتقال الكاتب والصحافي، محمد نعناع.
وحين كان السوداني، مرشح الإطار التنسيقي لرئاسة الحكومة، وصفه نعناع بأن "تفكيره كلاسيكي مرتبط برؤى لا تخدم بناء الدولة"، وهذا ما أدى إلى اعتقاله، ويفرج عنه بكفالة في آذار/مارس 2023، ليتم اعتقاله مرة ثانية في كانون الثاني/يناير 2024 من قبل مسلحين يرتدون زيًا مدنيًا، لكن محامي السوداني، أعلن بعدها أن رئيس الوزراء "صفح عن نعناع". قال صحفيون أجريت اتصالات معهم، إن السوداني "يستخدم منهجًا انتقاميًا ضد منتقديه، حيث يقوم باعتقالهم والتنكيل بهم، ومن ثم يخرج مقربون منه، يقولون إنه تنازل عن حقه للإفراج عنهم".
تعرّض نعناع لظروف قاسية أثناء اعتقاله. نام في التوقيف على الأرض فقط، دون فراش. أجبر على أن يعتذر للسوداني عبر مقطع مصوّر. وفعل الاعتذار كما قال أحد السياسيين خلال مقابلة معه في أربيل، كان "شرطًا حكوميًا للإفراج عنه"، إذ شهدت القضية "سلوكًا عشائريًا حكوميًا كان مبالغًا به".
تعتبر الحالة العراقية في ما يكتبه بعض الباحثين، متأرجحة منذ عقدين بين الديمقراطية ومحاولات استعادة نموذج الحكم القابض على الفضاء العام. لكنها انتهت في العهد الحالي إلى التصنيف الأخير في إنهاء ما قد يكون "مكلفًا في الديمقراطية"، ومنها الحريات. وصل النظام السياسي إلى قناعة الإبقاء على الانتخابات وبعض "التصورات المشهدية" التي لديه قدرة السيطرة على أغلب مسارتها، بحسب السياسي الذي يعتبر قياديًا في حزب ناشئ، تأسس إثر احتجاجات تشرين في خريف العام 2019.
الإزعاج يجب أن ينتهي.. ولا نقاش
ينظر السوداني للصحافة والفعاليات الإعلامية في العراق بقلق واضح، تتعلّق بمساعيه في أن يكون خارج النقد ولـ"يحمي نفسه"، بحسب حديث مع أحد سياسيي الإطار التنسيقي، الذي لا ينكر أن الصحافة يمكن أن تصنع انطباعًا مؤثرًا ومزعجًا عن أي حكومة، فضلاً عن أن بعضها "يكون مدفوعًا من كتل سياسية تتنافس مع رئيس الوزراء"، وما يفعله السوداني "مبرر جدًا"، على حد قوله.
السياسي الذي لن يقبل بالكشف عن اسمه خشية من التأثير على ما وصفه بـ"اتفاق أطراف ائتلاف إدارة الدولة الذي يقضي بعدم إثارة القلق الإعلامي بين جميع مشكّلي حكومة السوداني"، قال إنّ "تذكيرًا يحصل في معظم اجتماعات ائتلاف إدارة الدولة أو الإطار التنسيقي حول ضرورة عدم إثارة قضايا إعلامية ضد الحكومة".
وعلى ما يبدو، فإنّ هذا التوجه لا يخلو من تأثيرات حدثين شهدتهما البلاد، وهي احتجاجات تشرين في خريف العام 2019، فضلاً عن اشتباكات آب/أغسطس 2022، التي انسحب على إثرها زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، من العملية السياسية. الاتفاق الذي جرى بعد ذلك وأدى إلى تشكيل الحكومة الحالية، كان هو "الخلاص من التشويش الإعلامي والانتقادات التي كان لها الأثر الكبير على مسار النظام"، وفق السياسي نفسه.
وفعلاً، حصل السوداني على ما لم يحصل عليه كل رؤساء الوزراء في حكومات ما بعد 2003، ولم تشهد البلاد قلقًا إعلاميًا ملحوظًا ضد المسار الحكومي. تسيطر على الأجواء العامة الأحاديث المتعلّقة بما تسميه الحكومة بـ"إنجازات الخدمات"، بالإضافة إلى التطرّق المستمر لـ"الاستقرار"، وهو ما يفسّر عدم إثارة النقاش والأسئلة حول عمليات اغتيال حدثت في العراق أثناء وجود حكومته، بدأت باغتيال المواطن الأميركي ستيفن ترول في تشرين الثاني/نوفبمر 2022، أو اغتيال رئيس ومؤسس حزب الداعي، فاضل المرسومي، في كانون الأول/ديسمبر 2023، فضلاً عن البلوكر المعروف بـ"نور بي إم"، في أيلول/سبتمبر 2023، بالإضافة إلى اغتيال البلوكر المعروفة بـ"أم فهد"، في نهاية نيسان/أبريل 2024، وتقريبًا، معظم هذه الحوادث لم تخرج تحقيقاتها للعلن، وبقيت حبيسة الأروقة الحكومية والأمنية دون معرفة الجهة المنفذة أو الأسباب التي أدت لها.
يُعتقد أن توجهين لدى الحكومة الحالية في السيطرة على "قلق" الرأي العام، الأول هو الضغط والقوة، والثاني هو دفع المال
لم تكن قضايا كهذه تمر بصمت. كان النقاش المتصاعد من قبل الصحفيين والمدونين والنشطاء، في حالة من الشد والجذب على مدى أكثر من 15 عامًا، ويترك تأثيره على أية حال، لكنه منذ نهاية العام 2022 شهد نكوصًا وتراجعًا واضحًا، كان من أبرز أسبابه "إقدام السلطات على القمع دون أي تحفظ، إذ لا تجد حرجًا أو تشعر بتردد حين تريد إسكات أحد أو إنهاء تأثيره على الفضاء العام"، بحسب رئيس تحرير لموقع إخباري في بغداد.
خطة إسكات الموظفين
يشمل مسار عدم "إثارة الانتقادات والنقاش" الموظفين في الوزارات والهيئات المستقلة أو شبكة الإعلام العراقي. على سبيل المثال، أعلنت الإعلامية آن صلاح في آذار/مارس 2024 إيقاف برنامجها المنوّع على قناة العراقية، إثر "انتقادها لرفع أسعار الوقود".
وفي اليوم الذي حجب فيه برنامج صلاح، تلقى موظفو شبكة الإعلام العراقي توجيهًا من مدراء أقسامهم عبر رسالة على جروبات الأقسام في "واتساب"، جاء فيها: "يمنع منعًا باتًا كتابة منشور على صفحاتكم الشخصية تنتقدون الحكومة بأي شكل من الأشكال، كوننا موظفي دولة".
يعتقد أحد الموظفين الذين تلقوا الرسالة، أنّ العقوبات لمن ينتقد الحكومة، خاصة بـ"المؤثرين على مواقع التواصل، لأنهم لا يريدون الانتقادات أن تنتشر وتتحول إلى رأي عام، كما كان يحدث في السابق". سبق وإن تعرّض هذا الموظف لـ"تهديد بالفصل بسبب كتابة منشور على فيسبوك انتقد فيه الحكومة".
قال موظف آخر، إنّ "المكتب الإعلامي للسوداني يتدخل في كل ما يخرج من النوافذ التابعة لشبكة الإعلام العراقي، ولا يسمح بأي محتوى يكشف عن خطأ أو انتقاد للحكومة".
وفي الأجواء الداخلية لعمل الشبكة، يضرب الموظف مثالًا على عنوان كتبه في برنامج سياسي حمل كلمة "أزمة" بطريقة عابرة، لكن الأمر واجه اعتراضًا شديدًا من مديره الذي قال: "لا نريد المشاكل مع الحكومة"، أما الأجواء الخارجية، فإنّ "مواقع التواصل تشكل قلقًا كبيرًا لدى الحكومة الحالية، سواء من الموظفين أو غيرهم".
أثناء العمل على هذا التحقيق، أصدر رئيس شبكة الإعلام العراقي، كريم حمادي، عقوبة "إنذار"، بحق مقدم البرامج الرياضية غزوان شاكر، إثر منشور عبر "فيسبوك"، أعتقد حمادي أنه يقصده. تم الاطلاع على المنشور الذي كان عموميًا، قال شاكر فيه: "رأيت كل شيء بحياتي، لكن أن يتسلم السارق واللئيم منصبين، فهذا لم ولن يحدث". ولم يكن المنشور يحمل صورة أو اسمًا معينًا، ما يجعل عقوبة "الإنذار" مستغربة بالنسبة لعاملين داخل الشبكة التي كان يراد لها أن تكون "هيئة مستقلة" بموجب الدستور العراقي.
وأبرز مثال على الخط الذي تسير فيه مؤسسات شبكة الإعلام العراقي، ما نشرته صحيفة الصباح الرسمية، في 13 نيسان/أبريل 2023، مقالة مترجمة بعنوان: "في العراق.. السوداني العنيد يعبِّد الطريق"، وهو تقرير مكتوب بالإنجليزية في صحيفة "عرب نيوز"، لكن عند ترجمة التقرير، يتضح أن لا وجود لوصف "العنيد"، فضلًا عن "الطريق المعبد"، وإنما يشير إلى "مرونة في عهد السوداني" وحسب.
وترى حكومة السوداني أن موظفي الوزارات الأخرى، ينبغي أن يكونوا أيضًا ضمن خطة السكوت. حملت وثيقة صادرة عن وزارة التربية في أيار/مايو 2024، توجيهًا لمديريتها بتوقيع موظفيها على تعهد يقضي بعدم انتقاد الشخصيات السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي.
وعلى الرغم من تراجع وزارة التربية عن الوثيقة بعد ضجة أجبرتها على ذلك، لكن أحد مدراء المدارس في العاصمة، يعتقد أنّ "الحرب على الآراء في مواقع التواصل ستجري بهدوء دون وثائق واضحة قد تشعل غضبًا في الرأي العام". وفعلًا، أثناء ما كان المسؤولون العراقيون يواصلون تقديم التهاني بمناسبة عيد المعلم في آذار/مارس 2024، تعرّض "خالد نجم"، وهو مدير مدرسة في محافظة واسط، إلى عقوبة التحقيق والنقل، لأنه أقام عرضًا مسرحيًا كانت فيه إشارة إلى أنّ "الأحزاب الحاكمة سبب خراب البلاد". لم يكن هذا الأمر معلومًا، ومر أيضًا دون ضجيج أو اعتراض.
الحكومة تصرف مئات الملايين
يُعتقد أن توجهين لدى الحكومة الحالية في السيطرة على "قلق" الرأي العام، الأول هو الضغط والقوة، والثاني هو المال الذي يدفع لمدونين وصحفيين، ويستخدم أحدهما وفق الظروف المتاحة. في 6 آذار/مارس 2024، ادّعى النائب في البرلمان العراقي، مصطفى سند، أنّ حكومة السوداني، "تصرف 650 مليون دينار شهريًا لصفحات تروج لها على مواقع التواصل"، وذلك عبر نثريات تابعة لهيئة الإعلام والاتصالات التي يقال إنها "مستقلة".
أجريت عدة محاولات للوصول إلى أحد المدونين أو أصحاب الصفحات الذين يكتبون لـ"الإنجازات الحكومية"، لكن أكثرهم رفضوا التعليق على ذلك وانكروا تلقيهم الأموال مقابل ما يُكتب، ومع الإلحاح بالأسئلة، زعم أحدهم أنّ "المكتب الإعلامي للسوداني وخلال الاتفاق الذي يجرى مع أي مدوّن، لا مشكلة لديه في انتقاد وزراء الحكومة أو حتى الفصائل المسلحة التي شكلت حكومته، المهم أن لا تصل لشخص السوداني، ومن الأفضل "الإشارة لإنجازاته بشكل يومي".
ادّعى آخر على علاقة بالمكتب الإعلامي للسوداني، أنّ "الموضوع الذي يراد ترويجه، يتمّ عبر توجيه في جروب واتساب للتركيز عليه ونشره على نطاق واسع، ولهذا تخرج التدوينات بموضوع موحد، لكن بصياغة قد تكون مختلفة أحيانًا"، واختلف مع المصدر السابق بالقول إنّ "أي حديث سلبي عن جميع وزراء الحكومة مرفوض".
كُشفت أمثلة واقعية عن حديث المصدر حول "الحملات الموحدة"، حيث رصد الصحفي والكاتب، زيّا وليد، صفحات تمتلك مئات الآلاف من المتابعين، أبرزها صفحة "الخوة النظيفة" و"أشواق أم القانونية"، وصفحة المدوّن "ستيفن نبيل"، مع صفحات أخرى، حين كتبت بشكل موحد وبتوقيت قريب، عن "العمل ليل ونهار في المجسرات التي تقوم حكومة السوداني ببنائها".
صحفي آخر كشف أيضًا عن منشورات موحدة تدعو إلى "تجديد الولاية الثانية لحكومة محمد شياع السوداني". يُعتقد أن ظهور هذا المطلب كان "خطأً إستراتيجيًا من مكتب السوداني الإعلامي، لأنه أثار قيادات داخل الإطار التنسيقي على السوداني وحصلت هناك مخاوف من تمدد كبير لرئيس الوزراء داخل هياكل الدوائر العراقية ومحاولة استغلالها انتخابيًا له"، بحسب حديث أحد سياسيي الإطار التنسيقي والذي لديه اطلاع واسع على مخرجات الاجتماعات التي تجري بشكل أسبوعي، إذ أشار إلى أنّ الأمر ربما "يلغي اتفاق عدم الحديث بالإعلام لما يعارض الحكومة".
كيف تجري عملية إدارة المدونين؟
من الواضح كما يرى عديدون اهتمام الحكومة بكل ما يكتب في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ لا تريد أن تخسر سطوتها على سيول الآراء التي قد تكون جارفة أحيانًا. هناك تنسيق واهتمام عال في إدارة هذا الملف المعقد عبر توزيع مهمة القيادة لأحد الصحفيين على كل فريق في مواقع التواصل، بحسب المقرّب من المكتب الإعلامي للحكومة.
وهذا الصحفي أو المستشار الحكومي الذي يدير أحد الفرق، يهتم أيضًا باستقطاب صحفيين أو مدونين يعتقد أنهم معارضون. يقول المقرّب من مكتب الحكومة الإعلامي، إنّ "الاتصال بمن يكتب ضد الحكومة أو السوداني، يكون عبر إرسال تطمينات أولية له عبر دعوته للكتابة عن إيجابيات مثل أهمية الالتزام بإشارات المرور، فضلاً عن مكافحة المخدرات، والدفع يكون من قبل هيئة الإعلام والاتصالات"، في إشارة إلى أنّ العملية رسمية ونظيفة وخارج الإشارة لإنجاز أو مديح شخصية معينة.
وتدريجيًا يجري الطلب حول أهمية الحديث عن إنجازات الحكومة والسوداني شخصيًا، وفق المصدر نفسه الذي لفت إلى أنّ "الراتب يكون بحسب عدد المتابعين وحجم التأثير، وهو يتراوح من ألف دولار وصولًا إلى أربعة آلاف دولار".
والأهم في الاتفاق الذي يجري مع صحفيين ومدونين، لا يجب أن يكون هناك محتوى يعبّر عن "سلبية"، وهو اتفاق يشمل القنوات الفضائية التي إن لم يخضع بعضها للمال أو الاتفاقات السياسية مع أصحابها، فإنّ الردع سيكون موجودًا، بحسب ذات المصدر.
ترسل حكومة السوداني شكاوى إلى منصة "إكس" من تدوينات يكتبها بعض المدونين
يتحدث مسؤول نشرة إخبارية في قناة تلفزيونية محلية، عن تجربة وصفها بـ"المريرة"، بعد استضافة خبير في نشرة إخبارية قال فيها إنّ "المجسرات التي يتم بناؤها الآن لن تحل مشكلة الاختناقات المرورية، كون العراق بحاجة إلى طرق ومدن جديدة وليس مجسرات".
وبعد أن انقضت النشرة، تلقى مسؤول النشرة اتصالاً انفعاليًا من مدير القناة، وجه اتهامًا له فيه بالقول: "هل تريد أن تورطنا مع الحكومة؟ الآن اتصل بي مكتب رئيس الوزراء وعاتبني على هذا القول". يقول الصحفي إن وظيفتي كدت أن أخسرها لولا عودتنا في اليوم الثاني للحديث بإيجابية عن "المجسرات وأثرها على التخفيف من الاختناقات المرورية التي يعاني منها المواطن العراقي".
وفعلاً، لا تشهد الأجواء العراقية ـ خاصة النوافذ الإعلامية ـ نقاشًا جادًا من قبل مختصين عن المجسرات التي تعلن حكومة السوداني إنجازها بين فترة وأخرى، وهل ستخفف فعلاً من الاختناقات المرورية، أم أنها تنقل الاكتظاظ من مكان إلى آخر؟ أُجريت متابعة لـ10 مؤسسات مرئية ومكتوبة خلال العمل على هذا التحقيق، وكلّها تشير منذ عام ونصف العام إلى "سعي إيجابي للتخلص من الاختناقات".
تقسيم الصحفيين إلى "إيجابي" و"سلبي"
منذ سنوات طويلة، يشكو العديد من القادة السياسيين في العراق، ومعهم الحكومات التي شكلوها، من ما يطلقون عليها بـ"السلبية"، وهو تصوّر غير مفهوم بالنسبة لأربعة صحفيين وجهت أسئلة لهم عن ما يعنيه الأمر، لكن أحدهم يعمل محرراً في إحدى قنوات التلفزيون، قال إنّ "الإيجابية يعني أن لا تُزعج الحكومة أو الميليشيات في أي محتوى".
بدأ هذا التصنيف منذ تقاسم عملية تشكيل الحكومة وتنصيب عادل عبد المهدي رئيسًا للوزراء بعد انتخابات أيار/مايو 2018. في مؤتمر مشترك مع تحالف سائرون في 11 شباط/فبراير من العام 2019، أي قبل احتجاجات تشرين، أعرب هادي العامري عن شكواه من الإعلام الذي يركّز على "الجوانب السلبية"، لتأتي الاحتجاجات وتعمّق التصور الذي يقول إن السلبية التي يطرحها الإعلام عن الواقع، هي ما يتسبب بتوسيع النقمة الموجودة في البلاد.
استمر الأمر إلى أن خرج السوداني خلال حفل بـ"عيد الصحافة العراقية" في حزيران/يونيو 2023، وتحدث عن "انهماك من قبل وسائل إعلام كثيرة داخلية وخارجية على بث السلبية ونقل الأمور غير الإيجابية للناس، لغايات سياسية أو نفعية، وهو ما تسبب في حالة إحباط للمواطنين في الداخل مثل ما تسبب بنفور خارجي حرم العراق من فرص الاستثمار والتنمية".
عديدون يعتقدون أنّ هذا التشبيه قريب إلى حد ما، بما حدث في العام 2019 وما بعده. وقتها، تم تقسيم الصحفيين في العراق إلى "أميركيين"، و"وطنيين"، وهو تقسيم يستهدف الصحفيين الذين لديهم دفاع واضح عن الاحتجاجات بوصفهم يتبعون خيارات "أميركية"، بالإضافة إلى صحفيين يدافعون عن النظام السياسي والفصائل المسلحة بأنهم "وطنيون" أو "معتدلون"، ليصل الأمر إلى أن التوجه الحكومي الحالي يقسّم أصحاب الآراء بين "إيجابي" و"سلبي".
"ماذا يعني أن تكون صحفيًا سلبيًا؟"، تم توجيه هذا السؤال إلى الصحفي، مصطفى ناصر، وقال إنّ "الإيجابية تعني التطبيل بالنسبة للحكومة، أما السلبية، فهي كشف الملفات الخطيرة، وتسليط الضوء على الإخفاقات"، لأن الصحافة "ليست معنية بذكر محاسن الحكومة".
نفس السؤال وجه لعلي المياح، وهو كاتب وصحفي، أجاب بأن حكومة السوداني تعتقد بـ"الجانب السلبي هو أي شيء يخالف دعايتها التي تجعل الوضع ورديًا"، وفق تعبيره.
ومع ذلك، فإنّ كل المؤسسات الحكومية في العراق، تمتلك مكتبًا إعلاميًا رسميًا، بدءًا من رئاسة الوزراء وليس انتهاءً بهيئات صغيرة داخل الهيكل الإداري للدولة، ومن الممكن أن تأخذ هذه المكاتب "الجانب الإيجابي للحكومة"، وفق المياح الذي يقترح بتهكم أيضًا الاستعانة بـ"الإعلاميين الذين تم شراؤهم من قبل الحكومة لنشر الجانب الإيجابي".
"فيسبوك" مسيطر عليه.. المشكلة في "إكس"
في منتصف كانون الأول/ديسمبر من العام 2023، كتب المدوّن والرسّام العراقي الساخر، آدم عراق، تدوينة انتقد فيها إجراءات حكومة السوداني في حجب مواقع صحفية. انتقد أيضًا مدير المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة، لكن المفاجئ، أنه تلقى في اليوم الثاني بريدًا إلكترونيًا، من منصة "إكس". يقول البريد إنّ الشركة "تلقت طلبًا قانونيًا من قبل الحكومة يدعي بأن التدوينة التي تحدثت عنها تخالف قوانين العراق".
البريد الذي تم الاطلاع عليه خلال مقابلة إلكترونية أجريت مع عراق، جاء فيه على لسان "إكس"، أنّ "الشركة لم تتخذ أي إجراء نتيجة لذلك الطلب، إلا أن من سياساتها إبلاغ المستخدمين إذا ما تسلمت طلبات قانونية من كيانات حكومية".
شعر "آدم عراق" بشيء من الارتياح نتيجة سياسة "إكس" في عدم حذف تدوينته وإبلاغه بالشكوى، لكنه لم يتوقع أن "تقوم جهة حكومية بكل هذا الجهد لمنع مدون مجهول من الكلام، بينما هناك مئات المشاكل التي تحتاج إلى حلول"، على حد تعبيره.
وعلى أية حال، فإنّ الرسالة تشير إلى وجود خطر حقيقي بالنسبة لـ"آدم عراق"، حيث قام بـ"الاتصال بالمحامي الشخصي للحصول على نصيحة قانونية ثم التواصل مع بعض أفراد العائلة وإخبارهم بالأمر"، إذ أنّ هذه الممارسات "أعادتني إلى زمن الدكتاتورية السابقة وجعلتني أخشى من تكرار كل ما جرى علينا من قمع للحريات بعد تولي صدام حسين للحكم".
تخشى الحكومة العراقية من المنصات التي لا تسيطر عليها. واحدة منها "إكس" و "تيليغرام"، إذ أنّ "فيسبوك" لا مشكلة لديها معه لأنه متعاون، ويمكن أن يحذف أي صفحة تعتقد أنها مخالفة. يقول أحد المختصين التقنيين إنّ بعض "المنصات تتعاون مع الحكومة لأن شكوى الأخيرة غالبًا ما يتمّ ربطها بالإرهاب وداعش"، ولهذا يعتبر المختص من أسباب تراجع النقاش السياسي والصحافة في "فيسبوك" هو سياسة هذه المنصة، فضلًا عن "سهولة التضييق فيها".
كانت البداية من "الوصايا الأخلاقية"
في الأوساط الصحفية يتمّ تداول رأي يقول إنّ مرحلة التضييق جاءت بمنحى أخلاقي من قبل السلطات، وهو ما يجعل منتقديها في مواجهة مع "الأخلاق". كان ذلك عبر ما سمي بـ"مكافحة المحتوى الهابط" مطلع العام 2023، والتي رافقتها اعتقالات طالت عددًا من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي بدعوى تقديمهم "محتوى هابطًا ومسيئًا للذوق العام".
ومع ذلك، فإنّ تعريف "المحتوى الهابط"، أو "الذوق العام"، من قبل السلطات العراقية ما يزال مجهولًا، ورأى عديدون أن هذه الحملة بداية ممنهجة للتضييق على الحريات العامة، فضلاً عن أن "حكومة السوداني بمختلف قطاعاتها تفرض وصايات أخلاقية وعقائدية على المجتمع، تارة بحجة المحتوى الهابط ومرة بذريعة المحتوى الذي يخالف الآداب العامة"، كما يقول رئيس جمعية الدفاع عن حرية الصحافة، مصطفى ناصر.
بالنسبة لناصر، فإنّ "الحكومة والقضاء يتحملان انتهاكًا دستوريًا جسيمًا بتبنيهما حملة مكافحة المحتوى الهابط، الذي استُخدم لترهيب كل صاحب محتوى لا يُعجب منهجية وعقيدة الأشخاص السلطويين، كما استخدمت الحملة كـ"تمهيد لقمع واعتقال واحتجاز الأصوات المعارضة".
تصاعد التهديد تدريجيًا من قبل وزارة الداخلية بحملة "المحتوى الهابط" وقتها، قال مدير العلاقات والإعلام في الوزارة، اللواء سعد معن إنّ "الحملة ستستمر بهدف تحقيق توعية وردع"، لافتًا إلى "إمكانية توسيع الحملة لتشمل كلَّ ما ينشر من محتوى فيه مضرَّة على المجتمع".
لم يتمّ تعريف نوع الردع وأهدافه، كما لم يفسّر إلى الآن المحتوى الذي "يضر المجتمع"، لكن الحملة توقفت إثر كشف الحكومة لـ"ضباط كبار، قاموا بإنشاء صفحات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي لابتزاز ضباط آخرين وشخصيات معروفة بالأفلام الجنسية بهدف الحصول على الأموال"، ويعتقد أن الضباط الذين كانوا قائمين على حملة المحتوى الهابط، من هؤلاء الذين أصدرت الحكومة بيانًا رسميًا عنهم، قالت فيه، إنها "كشفت عن شبكة داخل المؤسسة الأمنية، تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لابتزاز الضباط والمنتسبين ومساومتهم".
لم يظهر سعد معن الذي هدد بـ"تحقيق الردع" لأصحاب المحتوى الهابط منذ صدور بيان كشف "الضباط الذين يمارسون الابتزاز"، مع أنه كان يظهر بشكل شبه يومي على وسائل إعلام للحديث عن شتى القضايا الأمنية، ومنها مكافحة ما يسيء لـ"الذوق العام"، أو "الآداب العامة" في مواقع التواصل وغيرها.
وعلى ما يبدو، فإنّ الأمر أبعد من ما أُعلن عنه، لأن قوى الإطار التنسيقي التي شكلت حكومة السوداني، كانت تسعى لفرض أجندة اجتماعية تتسق معها، مثل قضية ملاحقة المحتوى الهابط وضجة الجندر، وهي خطوات سياسية للتضيق على الحريات كما رآها الأكاديمي والباحث العراقي، عقيل عباس، تتعلّق أهدافها بـ"إنتاج وحماية ما يخدم القيم التي تنتمي الطبقة الحاكمة لتعميمها على المجتمع وتحويلها للحظة عراقية مشتركة".
ترى حكومة السوداني أنّ حرية التعبير موجودة لكن البعض يستخدمها "بشكل سيئ"
ومر اعتقال عدد من المشاهير وصانعي المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي دون اعتراضات ملحوظة، كما انتهت الحملة أيضًا دون أسئلة عن أهدافها ووجود ضباط قائمين عليها، اتهموا بـ"الابتزاز"، ولن يحدث الاعتراض، لأنّ حكومة السوداني ـ والكلام لمصطفى ناصر ـ تقوم بـ"السيطرة على الفضاء العام العراقي"، بالإضافة إلى أنها "تضيّق مجالات نشأة أي وسيلة إعلام مستقلة، ومؤخرًا، أصبحت تحجب المواقع والوكالات الخبرية المؤثرة في العراق، دون أي سند قانوني، أو إعلان رسمي".
الحكومة لا تنكر "الانتهاكات".. وهناك من يسيء
لا يخفي العديدون اعتقادهم بأن مسار الحريات العامة بشكل عام والصحفية بشكل خاص في زمن محمد شياع السوداني "يتعرض لأسوأ تضييق ممنهج منذ العام 2003"، وفق تعبير الصحفي مصطفى ناصر.
تم التواصل مع مكتب رئيس الوزراء بخصوص الحديث عن التضييق على حرية التعبير. رفض المتحدث باسم الحكومة، باسم العوادي، الحديث عن الأمر لـ"عدم الاختصاص"، لكنه نصح بالتواصل مع مستشار رئيس مجلس الوزراء لشؤون حقوق الإنسان، زيدان خلف.
قال خلف إنّ هناك "حرية كبيرة للتعبير في العراق"، لكن "البعض يستخدمها بشكل سيئ بوجود قنوات تلفزيون ومنصات إخبارية ومواقع تواصل اجتماعي، وبالتالي يجب توصية الجميع بوضع معيار حقيقي لاحترام حقوق الإنسان، لأنها تبدأ من احترام الحريات الأخرى".
ولم ينكر خلف ما وصفه بـ"الانتهاكات الكثيرة على الصحفيين والإعلاميين العراقيين"، مبررًا ذلك بأنه "أمر يحصل في جميع دول العالم، ولا يمكن نفي جوده، ولكن هل هي حالة ممنهجة أو الحكومة توصي باستخدامها؟ إنّ هذا غير موجود".
ويقول خلف إنّ "رئيس الحكومة محمد شياع السوداني دائمًا ما يوجه بأن تكون حرية التعبير مصانة ويجب احترامها في إطار الدستور والقانون، ولا يجب السماح بالتجاوز عليها".
وتكفل المادة 38 من الدستور العراقي للعام 2005، حرية التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي، لكنّ خلف يقول إنها "أشارت أيضًا بصراحة إلى ما لا يخل بالنظام والآداب العامة".
الدستور موجود.. لكن "شبح" أحكام العسكر يطارد الجميع
بوجود "تحالف بين جميع السلطات ضد الحريات"، يعتقد منتقدو النظام السياسي في العراق أن السلطات حين تريد أن تقمع نشاطات "مزعجة"، تتجاهل المادة 38 من الدستور وتذهب إلى قانون العقوبات العراقي الذي كتبته المنظومات العسكرية التي حكمت العراق في القرن المنصرم. لقد شهدت السنوات الأخيرة، الحكم على أصحاب رأي وصحفيين عراقيين وفق المادة 226 من قانون العقوبات العراقي، التي تنص على أن "يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى طرق العلانية مجلس الأمة أو الحكومة أو المحاكم أو القوات المسلحة أو غير ذلك من الهيئات النظامية أو السلطات العامة أو المصالح أو الدوائر الرسمية أو شبه الرسمية".
وتعتبر العديد من المنظمات الحقوقية، فضلًا عن المراكز المعنية بحقوق الإنسان، أنّ المادة "226" لطالما كانت "شبحًا" يطارد الصحفيين في العراق، لسهولة استخدامها في الوقت الذي تريد السلطات استدعاءها.
مؤخرًا، أجرى البرلمان العراقي تعديلاً "ليس جوهريًا" بحسب قانونيين على هذه المادة، لتكون "يعاقب بالحبس أو الغرامة من أهان بإحدى طرق العلانية السلطات العامة التشريعية أو القضائية أو التنفيذية أو السلطات الإقليمية أو المحلية أو دوائر الدولة الدوائر أو شبه الرسمية"، كما تم إضافة نقطة للمادة تشير إلى أنه "لا تعتبر إهانة وفقًا لما ورد في البند (أولاً) أعلاه كل قول أو فعل يمارس في إطار حرية التعبير عن الرأي بحدودها الدستورية والقانونية، أو حق نقد السلطات العامة بقصد تقويم الأداء أو إبداء المظلومية".
وبغض النظر عن أن الحكم تم تعديله من السجن 7 سنوات، إلى الحبس لمدة تصل إلى 5 سنوات، فإنّ العديد من القانونيين أشاروا إلى أنّ المادة بقيت "فضفاضة"، ولم تحدد ما هي حدود حرية التعبير، فضلاً عن أن السلطة بقيت هي من يحدد مفهوم الإهانة من عدمه، وهو ما يثبت أن "النظام السياسي يريد الإبقاء على مواد الأنظمة الشمولية، لاستخدامها متى ما شاء"، بحسب قانوني قال بالحرف الواحد: "لا تذكر اسمي لأني أخاف من المادة التي انتقدها في الحديث معك".
وحصر حرية التعبير بـ"تقويم الأداء أو إبداء المظلومية" هي معايير واضحة للتضييق، وتفسّر كيف أن العراق يمثل شكل الأنظمة التي لا تريد الخروج من "السلوكيات الديكتاتورية"، إذ مضى على سقوط نظام صدام حسين 21 عامًا، لكن آثاره في السلوك مع المختلفين لا تزال باقية من ناحية أن السلطة تستخدم قوتها عبر القانون والوسائل الأخرى لمعاقبة من تراه يستحق العقوبة، وفق القانوني نفسه.
منع منظمات المجتمع المدني من الجامعات
في أمثلة بارزة عن "السكوت"، وعدم التفاعل مع مختلف القضايا داخل الفضاء العام، أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، قرارًا خاطبت فيه الجامعات الحكومية والأهلية كافة، لإيقاف التعامل مع عدد من منظمات المجتمع المدني الدولية والمحلية، بينها مؤسسات بارزة منذ سنوات.
وزير التعليم العالي والبحث العلمي، نعيم العبودي، الذي ينتمي إلى حركة "عصائب أهل الحق"، لم يوضح أسباب القرار حتى الآن، لكن نشطاء من داخل هذه المنظمات اعتبروا القرار تطبيقًا لأفكار الأمين العام لعصائب أهل الحق، قيس الخزعلي حول المنظمات.
والقرار، سبقته تهديدات من قبل الفصائل المسلحة منذ 2019، وفق عضو في منظمة مُنعت من دخول الجامعات، حيث قال إنّ "أعضاء منظمتنا يعرفون طريق أربيل وإسطنبول"، في إشارة إلى الهروب المستمر بعد تلقي التهديدات.
كان قيس الخزعلي، أمين عام عصائب أهل الحق، قال في خطاب سابق، إنّ "الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلال مشاريع مؤسسات المجتمع المدني تصرف على العراق 3 مليار دولار سنويًا"، وذلك لـ"محاربة القيم والعقائد والعادات التقاليد".
أبرز المنظمات التي منعت من دخول الجامعات، هي "جمعية الأمل العراقية"، حيث تضاءلت معظم نشاطاتها في الفضاء العام منذ صدور كتاب وزير التعليم العالي والبحث العلمي، إلى أن وصلت إلى 15 نشاطًا خلال أكثر من 6 أشهر أعلنت عنها في صفحتها على "فيسبوك"، بسبب "وجود تهديدات"، لم يكشف طبيعتها أحد النشطاء خلال اتصال هاتفي.
مطار بغداد "غير آمن"
في نهاية شباط/فبراير 2024، قالت عائلة مدوّن يدعى "ياسر الجبوري"، إن ابنها جرى "اختطافه" من قبل مكتب السوداني في مطار بغداد، أثناء ما كان مسافرًا للبلد الذي يحمل جنسيته، أيرلندا.
والجبوري الذي كان ينتقد حكومة السوداني عبر صفحته على منصة "إكس"، بقي لأكثر من ثلاثة أيام في السجن، ثم أعلن مقربون من رئيس الحكومة أنّ السوداني "صفح عن الجبوري"، وهو إشارة إلى منهجية التنكيل بالمعارضين، ومن ثم الإفراج عنهم.
قال أحد الصحفيين الذين كانوا على علم بمفاوضات إخراج الجبوري من السجن، إن "مقربين من السوداني طلبوا من عائلة الجبوري أن يقدموا اعتذارًا لعشيرة رئيس الحكومة"، وذلك لأن "الجبوري انتقد حالة (سودنة الدولة)"، في إشارة إلى تغوّل عشيرة رئيس الحكومة في مؤسسات الدولة.
منذ ذلك الوقت، يخشى الصحفي (ع. ح) من السفر عبر مطار بغداد، حيث يذهب إلى أربيل في مدة تستغرق نحو 6 ساعات في السيّارة للسفر من هناك. قال إنّ "الأمر ليس آمنًا في مطار العاصمة"، قال أيضًا إنّ "عنصر المفاجأة موجود في القبض على بعض الأشخاص. السياقات لا تعتمد دائمًا على القانون".
منع الظهور التلفزيوني.. وواتساب مراقب
موظفو العلاقات مع معدي البرامج ومسؤولي النشرات الإخبارية في القنوات التلفزيونية العراقية لديهم قائمة لسياسيين ومحللين وكتّاب ممنوعين من الظهور في مدد محددة، أو إلى أجل غير مسمى.
المنع يأتي بأمر من هيئة الإعلام والاتصالات، وهي مؤسسة أريد لها أن تكون تنظيمية، لكن بيانات حقوقية تشير إلى أنها تأخذ مكان "وزارة الإعلام" في عهد صدام حسين، حيث "منعت الكثير من المحللين السياسيين وأصحاب الرأي الذين ينتقدون حكومة محمد شياع السوداني خلال السنة الأخيرة، وفي هذا "مخالفة لواجباتها، فضلاً عن أن "عملها لا يبيّن أنها مستقلة كما رسم لها في الدستور"، وفق بيانات صدرت من جمعية الدفاع عن حرية الصحافة خلال فترات مختلفة.
والمثال على استجابة هيئة الإعلام والاتصالات للسلطات ظهر بعد رسائل متبادلة بين رئيسي المحكمة الاتحادية العليا، ورئاسة الجمهورية، جاسم محمد عبود، وعبد اللطيف رشيد، حيث تحدثا عن "مجموعة على تطبيق واتساب تقيّم الجهات الحكومية بما لا يتفق مع النظام العام والآداب"، فيما انتقدا الباحث والكاتب العراقي يحيى الكبيسي، الموجود في المجموعة.
لا يوجد توضيح حتى الآن حول إمكانية أن يؤدي تقييم الجهات الحكومية إلى المسائلة، فضلًا عن كيف تتمّ مراقبة مجموعات "واتساب" من قبل السلطات، لكن عطفًا على الرسائل المتبادلة، قررت هيئة الإعلام والاتصالات، منع ظهور الباحث في الشأن السياسي الدكتور يحيى الكبيسي، في كافة وسائل الإعلام منذ ظهور الرسائل.
النظام السياسي "معجب" بالتجربة المصرية
لا يختلف التعامل الحكومي في التعاطي مع المواقع ووكالات الأنباء من ناحية أن الممتنع عن "الإشارات الإيجابية" للحكومة، يتمّ حجبه، وهو توجه واضح بالنسبة للكاتب والمحلّل السياسي، حامد السيّد الذي يشير إلى سلسلة إجراءات "اتخذت في عهد السوداني بدأت بحجب مواقع إخبارية رصينة غير ممسوكة من قبل مكتبها الإعلامي وغير متأثرة بإملاءاته أو تعليماته".
ويأتي هذا الأمر ضمن مسار محاولة السيطرة شبه المطلقة "على خطاب الصحافة والمدونين عبر منظومة توفر المكافآت الشهرية مقابل التلميع للإنجازات"، بحسب السيّد.
ويتطرّق أحد الصحفيين الذين تم التواصل معهم لمعرفة رأيهم بما يجري، إلى "التجربة المصرية"، وقال إنّ "حكومة السوداني تقوم بمقايضة الناس بالخدمات مقابل الحريات، وهو استنساخ للتجربة المصرية التي يعبّر قادة النظام السياسي في العراق عن إعجابهم بها".
كان هذا التصريح مثيرًا للبحث عن مصداق واقعي له. تابعت كلمة لرئيس تيّار الحكمة، عمار الحكيم في شباط/فبراير 2024، خلال معرض العراق الدولي للكتاب. الحكيم وهو أحد أعمدة تشكيل حكومة السوداني، تحدث عن لقاء جمعه بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. وفي إطار انتقاد الحكيم للنظرة السلبية لتجربة حكومة السوداني، قال إنه حتى "الرئيس المصري يرى أن المشروع العراقي يتقدم"، وذلك لوجود "إيجابيات مهمة".
سألت حامد السيّد عن هذا التصور تحديدًا، ولم يستبعد أن تكون تجربة السوداني مختلفة عن "تجربة السيسي في مصر التي تستوعب الفضاء العام ضمن محددات الترويج الممنهج للخدمات على حساب الحريات"، لكنّ المختلف في تجربة السوداني كما يعتقد السيّد أنّ ما يقوم به من عمل هو "منجزات شكلية لا يمكن أن تدوم حتى لو أسكت الصوت المعارض"، حيث يعود هذا الاختلاف إلى التوافقية السياسية التي لا تسمح لمن تختاره رئيسًا للوزراء بأن يختزل كل الوظائف بيده أو يقوم باحتكاره لنفسه سياسيًا أو انتخابيًا كما يجري في مصر.
"زمن الإطار".. السلطات متحالفة ولا يوجد برلمان
يذهب عديدون إلى أنّ وصول واقع الحريات إلى ما وصل إليه، هو طبيعي جدًا في ظل سيطرة قوى "الإطار التنسيقي"، على كل السلطات، ومنهم الأكاديمي والكاتب، سليم سوزة، الذي يضيف إلى ذلك "غياب الكتل البرلمانية الكبيرة التي يمكنها معارضة حكومة الإطار داخل مجلس النواب".
ووصل الأمر إلى عدم وجود حتى رئيس لمجلس نواب منذ الإطاحة برئيسه السابق محمد الحلبوسي، لأن "بقاء منصب رئيس البرلمان شاغرًا جعل قوى الإطار التنسيقي تستفرد بالقرار التشريعي، إلى جنب القرار التنفيذي والقضائي اللذين كانا في الأساس تابعين لهذه القوى"، كما يقول سوزة.
وليس بعيدًا عن ذلك، فإنّ الوضع بما يخص الحريات في العراق ينطبق عليه شعار "إنه زمن الإطار"، كما يعبر الكاتب والباحث في الشأن السياسي، عقيل عباس، لأنّ البلاد "أمام مجموعة سياسية محافظة في إطار التشيّع السياسي وتميل لليمين بأفكارها في حرية التعبير والديمقراطية تاريخيًا".
وهذه المجموعة السياسية التي تحكم الآن في العراق تتصرف بدافع من شعور بـ"الانتصار"، بحسب عباس الذي يشير إلى أن لديها "حس الغلبة والسيطرة وعدم مشاركة أي أحد لها بالسلطة".
منعت منظمات مجتمع مدني من الدخول للجامعات العراقية بأمر من وزير التعليم العالي والبحث العلمي نعيم العبودي
وتعاظم حس الغلبة مع إنهاء الحريات وتراجع التصورات الديمقراطية، بالإضافة إلى العودة للخطاب الطائفي، ليس غريبًا لأن شرعية المجموعة الحاكمة المتمثلة بالإطار التنسيقي، "تنتمي للحظة تاريخية تتعلق بالصراع المذهبي لا للقيم الحداثوية والديمقراطية"، وفق عبّاس نفسه.
المؤسسات الثقافية تشترك في أجواء "الإسكات"
ولا تقتصر أجواء تراجع الآراء والنقاشات المعتادة في الفضاء العام على الإعلام المرئي والمكتوب، إنما وصلت إلى الفعاليات والمؤسسات الثقافية في العراق، وهو ما يفسّر ظهور كتاب صادر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق مطلع حزيران/يونيو 2024، حيث قام بتشكيل لجنة تتابع مواقع التواصل والمنصات الثقافية لرصد "ما يسيء لسمعة الوطن والمساس بالقضايا الوطنية الرمزية وضبط الإعلام الأدبي"، وهي قضايا غير مفهومة و"فضفاضة" بالنسبة لأربعة شعراء وكتّاب تم توجيه أسئلة لهم عنها.
على الجانب الآخر، فإنّ نقابة الفنانين العراقيين هي الأخرى، قررت في نيسان/أبريل 2024، معاقبة الفنانة "عايدة الغريب"، بتهمة إطلاق تصريحات تمس "هيبة الدولة"، وذلك بعد حديثها عن "هروب بعض حماية السوداني خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لطلب اللجوء". صدر قرار معاقبة الفنانة، بالتزامن مع ظهور مشهد تمثيلي لنقيب الفنانين، جبار جودي، يلمح فيه إلى أن "السوداني بدأ يعمل والكتل السياسية ستحاول عرقلة إنجازاته".