بعد الهزائم والانكسارات السياسية التي خلّفتها هذه الطبقة السياسية، والتي على الأرجح ستمتد آثارها لفترة طويلة، ستظهر أجيال في المستقبل تتصارع فيما بينها وتجادل في هذه الإشكالية الفجّة: هل كانت هذه الأحزاب تمثّل الإسلام؟! ربما سنشهد نقاشات متنوعة عن كل شيء باستثناء شيء واحد يبقى مجهولًا، وهو ترجمة النموذج العملي الملموس. خصوصًا أن الناس وفيّة لنماذجها التقليدية طالما لا توجد نخب سياسية تلقي على عاتقها مهمة خلق نموذج ملموس. بمعنى ستبقى استعادة وتدوير النماذج التقليدية أمر متوقع. وربما ستبقى هذه المعادلة إلى أمد ليس بالقصير: للنخب السياسية الصراع على امتيازات السلطة، وللناس التمسك بهوياتها الفرعية. وهذا أهوّن الشرّين!
لا زال معظم العراقيين يعتقدون أن خلاصهم السياسي يكمن في رموزهم المذهبية والقبلية
وليس من المستغرَب أن نشاهد الكثير من العراقيين يتمثلون قضاياهم السياسية والاجتماعية على شكل "طلابة" عشائرية، لكن لا أحد منهم يمتلك القدرة على إحداث الفارق العملي من خلال تغيير المعادلة الطائفية التي يتمسكون بها. وإن حاولت فئة اجتماعية أن تترجم العكس فستغدو رجيمة ومنبوذة في المجتمع، وستكون نتائجها دمًا ودموعًا.
نتلمّس الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية التي يدرجها المجتمع العراقي من ضمن المشاكل الاجتماعية العويصة؛ كالديمقراطية، والحرية، والعدالة، والمواطنة، بينما تحتلّ القضايا التقليدية ذات الشأن الطائفي والقبلي المرتبة الأولى في قائمة المواضيع الأصلية بالاهتمام العام.
للأسف الشديد لا زال معظم العراقيين يعتقدون أن خلاصهم السياسي يكمن في رموزهم المذهبية والقبلية، وبعد كل هذه الانكسارات لا زالوا متشبثين بهذه الطريقة. ويبدو أنهم يترجمون تطلعاتهم على طريقة نخبهم السياسية، ويتصورون أن بقاء مجدهم الطائفي مرهون ببقاء هذه النخب الفاسدة، كما لو أن جموحهم الطائفي سيحسن من طرق عيشهم.
يتعرض العراق لتحديات جسيمة، ابتداءً من بناه التحتية شبه المتهالكة، ونهاية بقضية البيئة التي أضحت ملحّة وقد تدخل البلد في منعرج خطير يفضي إلى مستقبل مظلم ومجهول، لكن ولا واحدة من هذه التحديات تشكّل أولوية قصوى لدى النخب السياسية الطائفية وجمهورها العقائدي، ذلك أن العراق في ضمير هؤلاء ليس أكثر من صندوق مملوء بالذهب والفضة، وكل من يرفع صوته خارج هذا السرب المشؤوم ستكون حياته قربانًا للكلمة الحرة.
دع عنك صراخ الأصوات "النشاز" في مواقع التواصل الاجتماعي، فهذه الأصوات خرج البعض منها منددًا بمآسي العملية السياسية وكلنا نعرف كيف كانت النتيجة، أما الأعم الأغلب فرأس مالهم التذمر والعدمية واللا جدوى. وقد أنعكس هذا الحال على بعض ممثلي الحراك التشريني في البرلمان الجديد، إذ لا زالوا حتى الآن لا تجمعهم وحدة الهدف، فضلًا عن جمهورهم الذي يسلك، لا شعوريًا، سلوك القبيلة في نظرته لممثليه في البرلمان.
غير أن الأمر مختلف مقارنة بالسواد الأعظم من الجمهور السياسي الذي لا يشعر بمسؤوليته التاريخية تجاه ممثليه الفاسدين. ليس هذا فحسب، بل هو مصرّ بشكل عجيب على تقديم مقولة المذهب والقبيلة على مقولة الدولة. أكثر من ذلك، لا ينحصر ولاءه داخل حدود الوطن (إن كان ثمّة وطن يعترفون فيه)، بل يمتد الولاء خارج الحدود.
يتعرض العراق لتحديات جسيمة ابتداءً من بناه التحتية شبه المتهالكةونهاية بقضية البيئة التي أضحت ملحّة وقد تدخل البلد في منعرج خطير يفضي إلى مستقبل مظلم ومجهول
كنّا سابقًا نتلمّس الأعذار لهذه الكتل البشرية ذات التوجه الطائفي بوصفها كتل بشرية محرومة من التمثيل السياسي، وبنفس الوقت كانت تخشى الآخر المذهبي الذي يتربّص بها (أو هذا ما شحنته الدعاية الطائفية)، لكن وبعد هذه السنين العجاف تبيّن أن النخب السياسية الطائفية هي أشد خطورة على المذهب من أي مجموعة بشرية أخرى! بيد أن هذا الحصاد المر، وآخره مهزلة الانتخابات الأخيرة، وسقوط الكثير من الأقنعة، لم يسقط "الآخر المذهبي" من مخيلة الكثير من هذا الجمهور، ولا زالوا يتمثلون المذهب، لا شعوريًا، على شكل تنظيم حزبي حتى لو كان أكثر التنظيمات فسادًا على وجه الأرض، ومن ثمّة هنالك فسحة كبيرة من التبريرات من قبل الجمهور باعتبار أن هذه التنظيمات لا تمثل الإسلام.