يتصوّر الكثير من الفاعلين السياسيين العراقيين أن مشكلتهم اليوم هي مع أزمة تشكيل الحكومة واختيار الرئاسات الثلاث، وللأسف لم ينفقوا وقتًا كافيًا لتأمل الأزمة الأكبر التي يغطسون فيها، وهي "أنهم هم المشكلة"، وأن هناك بونًا شاسعًا بين تصوراتهم الضيقة والوقائع على الأرض. فحتى لو اجتمعت كل الكيانات السياسية الفائزة في الانتخابات الأخيرة على "صفقة" مقنعة لكل الأطراف فإن هذا لن يكون خروجًا من الأزمة الكبرى التي صنعتها على مدى عقدين تقريبًا ممارسات الطائفية السياسية واستهانة غالبية القوى بصلاحيات الدولة الحصرية من مسك السلاح والأمن، والتأسيس على الفساد المالي والقانوني باعتباره عرفًا مقدّسًا لا يجوز المسّ به!
إن الأقلية والأكثرية في عرف السياسة الطائفية ليست اختيارًا وإنما قدرًا لن تستطيع الفرار منه
خلاصة هذه الأزمة الكبرى تتجسّد في الخطابات الصادرة عن قوى "الإطار التنسيقي"، الذي يتحدّث دون مواربة عن "حق المكون الاجتماعي الأكبر" في السلطة، و"الأغلبية الحاكمة" بتجاوز فاضح لأعراف العمل السياسي والدستوري ونتائج الانتخابات.
على وفق المنطق الذي تفكّر به هذه القوى السياسية؛ إن شاركت أنا في الانتخابات وحصلت على مقعد واحد، فإنني [كشيعي] سأكون مطمئنًا، في كلّ الأحوال، أنني سأكون جزءًا من "الأغلبية الحاكمة" الناتجة عن "المكون الاجتماعي الأكبر" وليذهب زميلي "السنّي" بمقاعده (حتى وإن كانت أكثر عددًا) ليمسح يده "بالحايط". فهو لن يكون لا اليوم ولا غدًا جزءًا من الأغلبية الحاكمة.
هذا طبعًا بغض النظر عن كون الوقائع السياسية تعتني بنوعٍ محددٍ من "الشيعي" و"السنّي" لا علاقة له بالتصورات الاجتماعية السائدة عن كيانات خيالية متصوّرة اسمها "سنة" أو "شيعة" أو غير ذلك.
لنفترض أنني قمت مع شباب من كلّ المحافظات العراقية، في الانتخابات البرلمانية القادمة، بتشكيل كيان سياسي، له هدف ترفي جدًا مثل إطلاق مكوك فضائي عراقي لوضع علم العراق على سطح القمر.
إنه برنامجنا الانتخابي الذي سنطرحه للجمهور العالم، وسيكون الجمهور "بطرانًا" بما يكفي ليعدّ هذا الهدف مهمًا جدًا ويستحق أن يمنح صوته لنا، لنكون داخل البرلمان كتلة كبيرة، مكونة من كل الأطياف العراقية.لكن الأحزاب الطائفية الحاكمة لن تقبل أن هدفنا "وضع علم العراق على سطح القمر" هو ما يحدّد هويتنا السياسية، بغض النظر عن أصولنا الاجتماعية والطائفية والدينية، ومدى تصديقنا كأفراد بحكايات الطوائف والقوميات والأعراق والعشائر، وإنما يجب علينا تمزيق كتلتنا البرلمانية إلى كيانات طائفية وعرقية أصغر، فقط لسواد عيون الزعماء الإسلاميين الشيعة!
كلما فتحت هذه الأحزاب فمها فإنها تقول بشكل فاضح أنها لا تؤمن بـ"الهوية السياسية"، والتي تشكّلها اختيارات الأفراد، وإنما أن هناك كتلًا اجتماعية صمّاء تحت عناوين طائفية، وهناك قيادات "طبيعية" لهذه الكتل الاجتماعية، هي بالضرورة قياداته السياسية، شاء الناس أم أبوا.
إن هذا التصوّر قبلي عشائري متخلّف لا علاقة له بالعمل السياسي أصلاً، الذي من طبيعته أنه عملٌ متحوّل ينمو ويتغيّر ويتبدّل. وهو تصوّر يسلب إرادة الأفراد أمام قدريات وإكراهات الأصول الطبيعية الاجتماعية، من طائفة ولغة وعرق وجنس، بالإضافة إلى كونه تصورًا غير علمي ولا واقعي، يُعلي من بُعد واحد في الهوية ويتجاهل حقيقة التعدّد والتشظّي وتراكب الطبقات في هوية كل إنسان وفرد، فأنا مثلاً أنتمي إلى فضاء هوياتي متخيّل اسمه "الكتاب والمثقفون والمؤلفون" بقوّة أكبر من انتمائي إلى أصولي العشائرية. وتجمعني مع جماعتي المتخيلة هذه مشتركات كثيرة حتى على مستوى السلوك واليوميات، وتصوراتنا عن العالم.
وهنا قد أكون مع جماعتي مجرد "أقلية" اجتماعية في العراق، ولكن التصورات الطائفية السياسية لا تنظر إلينا كأقلية لها حقوق، فالأقلية في عرفها مكونات اجتماعية ما قبل وطنية ذات أعداد قليلة، كمثل الصابئة والمسيحيين والإيزيديين والشبك وسواهم.
إن الأقلية والأكثرية في عرف السياسة الطائفية ليست اختيارًا وإنما قدرًا لن تستطيع الفرار منه. وبنتيجة محزنة أكثر دقّة: أن تكون من الأقلية فهذا حظ بائس وقدر ملعون، وسوء حال، عليك أن "تتهدل وتلطم" على نفسك كل يوم بسببه، بينما في العرف الإنساني لا أحد يتحمّس كثيرًا للأغلبيات، فهي هلامية وفضفاضة ولا تشكّل كيانًا اجتماعيًا حقيقيًا قابلًا للحركة، فكل العمل والنشاط هو داخل إطار الأقليات، الأقليات التي ندخل إليها باختيارنا، لا بسبب ما يقرّره زعماء سياسيون!
إن مجموعات الخضر والحفاظ على البيئة والمنظمات النسائية والنباتيين وداعمي مرضى التوحّد، وغيرها بالآلاف هي نماذج لتشكيلات اجتماعية لا تمثّل أغلبية ما، ولا ينزعج المنتمون إلى هذه الجماعات من كونهم أقلية. هذا فضلاً عن النشاط الطبيعي للنقابات والروابط والمنظمات الاجتماعية التي لا تعبأ بالهوية الطائفية والعرقية والعشائرية والمناطقية، لأنها تهتم بنشاطات وفعاليات تجمع أفرادًا بإرادتهم واختيارهم، وهي نشاطات أكثر جدية وإلحاحًا من تلك التي تصدر من مجرد انتماءات أولية.
إن ما تريد أن تخبرنا به هذه الأحزاب الطائفية؛ أن الانتخابات السياسية ليس لها وظيفة سوى تحديد حجوم التيارات السياسية داخل البيت الطائفي. وبالتالي تحديد حصص كل تيار سياسي من حصّة الطائفة ككل. وعلى وفق ذلك لا يوجد شيء يمكن أن تقوم به الانتخابات أعلى وأشمل من جدران الطائفة الحديدية. وبما أنك تنتمي إلى المكون الاجتماعي الأكبر فأنت في فمك ملعقة ذهب، حتى وإن لم تفز بأي مقعد! فمجرد "تهدلك ولطمك" على ضياع حقوق الطائفة سيجعلك جزءًا من وسائل التفاوض التي يقوم بها زعماء الطائفة.
في العرف الإنساني لا أحد يتحمّس كثيرًا للأغلبيات فهي هلامية وفضفاضة ولا تشكّل كيانًا اجتماعيًا حقيقيًا قابلًا للحركة
إن ما يجري ليس أقل من حفلة تعرّي سياسية، أو بشكل أدق؛ إلقاء آخر قطع الملابس على المسرح، تلك التي كانت تستر على مدى عقدين تقريبًا الفعاليات السياسية العراقية، التي صدّعتنا بالكلام عن حقوق المواطنين والتنمية والتداول السلمي للسلطة وبناء دولة القانون، حتى جعلوا البلد خرابًا وقاعًا صفصفًا.
إننا في القاع يا سادة، وأنتم مصرّون على الحفر أكثر!