في النوفيلا القصيرة تحت عنوان "الرومانسي" التي نُشرت من ضمن كتابي القصصي "الوجه العاري داخل الحلم" في 2018 كان هناك بطلان؛ عراقي وفلسطيني. والفلسطيني هنا بنحو أدق هو "عراقي فلسطيني" فهو مولود في العراق وعاش كل حياته في بغداد ويتحدث اللهجة العراقية ولا يعرف عن فلسطين سوى حكايات والده، صانع الأحذية الذي هجّرته الميليشيات الإسرائيلية من بلدته الفلسطينية قبل أكثر من أربعة عقود، وقادته المصادفات كي يكون في العراق. يعيش ويعمل ويتزوج وينشئ أسرة، مكابدًا لوعات ذاكرة مثقلة بالأسى.
التهجير للعوائل الفلسطينية/العراقية وإقامتهم في مخيم مؤقت في منطقة البلديات في بغداد ثم على الحدود العراقية الأردنية لاحقًا كان واحدًا من الصور البشعة لعراق ما بعد 2003
لم يكن بطل القصة يرى نفسه فلسطينيًا إلا بالقدر الذي ينضح من ذاكرة الأب، لكنه وجد نفسه ضحية للمليشيات ما بعد 2003 بتهمة أنه "فلسطيني"، بكل ما تحمله هذه الصفة في تلك الأوقات من إحالة في الوعي الشعبي إلى خطاب النظام السابق وجعله القضية الفلسطينية جزءًا من سرديات السياسة والثقافة والإعلام والفن في عراق خرب، لا يفكر الحاكم فيه بخدمة شعبه بقدر تمويل صورته الاعلامية باعتباره مدافعًا عن فلسطين والقدس والقضية الفلسطينية.
كان هناك نفور شعبي بنسبةٍ ما من هذه السرديات التي استهلكها النظام السابق، وكان للمليشيات أغراض أخرى، منها الاستيلاء على أملاك الفلسطينيين، أو تحميلهم جريرة ولاء بعضهم للنظام السابق، أو التعامل معهم لمجرد أسباب طائفية محضة، باعتبارهم جزءًا من المجموعات السكانية الصغيرة التي فقدت حماية الدولة، ولا تملك قدرة إنشاء ميليشيات تدافع بها عن نفسها.
في كلّ الأحوال فإنّ التهجير اللاحق للعوائل الفلسطينية/العراقية، وإقامتهم في مخيم مؤقت في منطقة البلديات في بغداد، ثم على الحدود العراقية الأردنية لاحقًا، كان واحدًا من الصور البشعة لعراق ما بعد 2003.
بمضمون السطرين السابقين، كتبت تغريدة على "تويتر"، وقلت بأنني من الصعب أن أصدق أن المليشيات التي تهتف باسم القدس وفلسطين على مدار الساعة تحب الفلسطينيين، فجاءني الرد سريعًا من مؤيدي المليشيات: سيل من الشتائم موجهة لي وللفلسطينيين، وتوجيه تهم متنوعة لهم، ليؤكدوا بذلك ما أقوله ولا ينفونه!
إن فلسطين والقدس التي يريد أن يحررها قادة الفصائل والميليشيات العراقية ومن خلفهم الخطاب الرسمي للسلطة في إيران، هي أشياء تجريدية محضة، وتخضع للتصور الأيديولوجي لهذا التيار العقائدي السياسي، ولا شأن له بالقدس وفلسطين التي على الأرض فعليًا.
كنت دائمًا أرى أنه لو تحقق لعبد الناصر حلمه بتحرير فلسطين والقدس من الاحتلال الصهيوني فإنه لن يمنح الأرض والسلطة للفلسطينيين وإنما يخضعهما إلى سلطته الخاصة، ويكون "الفلسطيني الجيّد" هو ذلك المؤمن بتصورات القائد والزعيم الفاتح والمحرّر، أما العامة من أبناء البلد والأرض فسيشعرون لاحقًا بأنهم يخضعون لاحتلال جديد!
قل الأمر ذاته عن صدّام حسين والخميني والقذافي وابن لادن وعن أي زعيم "ثوري" يريد تحرير القدس بالكلام والخطب، واستخدام القضية الفلسطينية حربة لجز رؤوس معارضيه في الداخل. ولو حدثت "المعجزة" وحرروا فلسطين بالفعل فإن آخر ما يفكرون به هو منح الأرض لسكانها الأصليين والمغادرة، والاحتفاظ بجميل العمل العظيم الذي قاموا به بتحرير الأرض من عصابات الاستيطان الصهيوني.
الزعيم الثائر الأيديولوجي يعشق فلسطين والقدس ويغرق في غرامهما إلى حد الهوس والهذيان، ولكنه لا يحبّ الفلسطينيين، إنهم بحاجاتهم اليومية ومطامحهم الخاصة وتنوعهم الديني والفكري والاجتماعي، يمثلون تشويشًا مزعجًا على الصورة الأيديولوجية النقية وواضحة الأبعاد.
ربما سيعشق ذلك الفلسطيني الذي يموت تحت الرصاص الإسرائيلي، حتى يعزّز بموته من غليان العاطفة الثورية عند الزعيم الأيديولوجي، فالفلسطيني الميت، فلسطيني جيّد يمكن استثماره والمتاجرة به.
كتبت مرّة، عقب اعلان إدارة ترامب عن نقل السفارة الاميركية إلى القدس، أنني شخصيًا أسير خلف الفلسطيني أينما ذهب حتى لو قرّر الذهاب إلى الجحيم.
وكنت أقصد؛ أنني لا أريد المزايدة على الفلسطيني، ذلك الكائن الموجود على أرض الواقع، لا في الأدبيات الحزبية والسياسية والصور النمطية التي يبثّها الإعلام العربي منذ عقود. فهذا الكائن الذي من لحم ودم هو صاحب المحنة والمعاناة، وعلينا أن نفهمه ونتواصل معه، لنعرف الطرق الصحيحة لدعمه ومناصرته وتأييده "والسير خلفه". لا الاستيلاء السياسي على قضيته وتحويلها إلى مادة دعائية تسيء إلى القضية في نهاية المطاف، كما حصل مع كل "المستثمرين" السابقين طوال عقود.الزعيم الثائر الأيديولوجي يعشق فلسطين والقدس ويغرق في غرامهما إلى حد الهوس والهذيان ولكنه لا يحبّ الفلسطينيين
أما أن ترغب بتحرير القدس، ولكنك تتهم الفلسطينيين بتأييدهم لصدام ومشاركتهم في العمليات الإرهابية خلال سنوات العنف الطائفي ببغداد، بتعميم غير واقعي أو منطقي، ولا يكون لديك فضول لمعرفة الآراء المتنوعة للفلسطيين في المهاجر وداخل الأراضي المحتلة، فهذا يعني أنك تفكر بالقيام بعمل خيالي جدًا، وهو تحرير القدس من الإسرائيليين والفلسطينيين في الوقت نفسه!