"العراقيون لا يبيعون أرضهم، وأم قصر أرضنا من أجداد الأجداد"، تقول السيدة فاطمة التميمي ضمن آلاف التغريدات والتعليقات الغاضبة التي أثارها إعلان وزير الخارجية الكويتي سالم عبد الله الجابر الصباح عزم محافظ البصرة إزالة المنازل في المنطقة الحدودية مع الكويت.
أثار تصريح وزير الخارجية الكويتي عن عزم حكومة البصرة إزالة المنازل الحدودية غضبًا عارمًا على مواقع التواصل الاجتماعي
الصباح تحدث بعد مباحثات مع كبار المسؤولين العراقيين حول القضايا الحدودية العالقة، حيث أشار الطرفان إلى "تطابق في وجهات النظر"، تمهيدًا لحسم الملف العالق منذ نحو قرنين.
فيما قال نظيره العراقي فؤاد حسين: "تحدثنا في ملف ترسيم الحدود وكان هناك نقاش مستفيض في هذه المسألة"، مبينًا أنّ "الإطار الصحيح لحل المشكلات هو الحوار".
85 مزرعة طماطم!
ورغم استمرار الاعتراضات العراقية بما يتعلق بالحدود البحرية التي حسمتها الأمم المتحدة بعد الغزو العراقي وأحداث حرب الخليج الثانية، إلاّ أنّ المخاوف الجديدة تتعلق بالحدود البرية، حيث قال الوزير الكويتي إنّ محافظ البصرة أسعد العيداني وافق على إزالة منازل عراقيين في المنطقة الحدودية في أم قصر.
التصريح أثار حنقًا سياسيًا وشعبيًا على مستويات عدة، حيث صدرت اتهامات للعيداني بـ "التنازل عن أرض عراقية"، وأعلن أعضاء في مجلس النواب رفض التحرك الجديد المتعلق بنقل عوائل عراقية تسكن على الحدود، إلى مجمع سكني وسط أم قصر مولت الكويت بناءه.
ويقول النائب عن البصرة رفيق الصالحي لـ "الترا عراق"، إنّ "الكويت تحاول التقدم في العمق العراقي بحرًا وبرًا، بموافقات وقرارات أممية جائرة"، مؤكدًا أنّ "المساحات التي ستقطع من الأراضي العراقية ليست بالهينة".
ويضيف الصالحي، الذي يمثل كتلة تحالف الفتح بزعامة العامري، إنّ "الكويت ستحصل بموجب قرار الأمم المتحدة والاتفاق مع حكومة النظام السابق، على أكثر من 85 مزرعة من مزارع المناطق الحدودية، المخصصة لزراعة الطماطم، بالإضافة إلى مساحة تضم أكثر من 100 منزل سكني لمواطنين عراقيين منذ سنوات طويلة".
يقدر الصالحي الأراضي التي فقدها العراق جراء الترسيم بمئات الكيلومترات إلى جانب نحو 100 منزل
تقدر مساحة كل مزرعة بما لا يقل عن 100 دونم، فضلاً عن نحو 100 منزل، بحسب الصالحي، الذي يقول إنّ "العراق تنازل عنها، كما تنازل عن مساحات شاسعة من المياه الإقليمية والتي شيدت عليها الكويت ميناء خور عبد الله، وغيره من المنصات البحرية".
ويرى الصالحي، أنّ "القرارات الأممية تصب بمصلحة الكويت، وتعتمد على التنازلات من قبل النظام السابق عام 1993"، مشددًا في ذات الوقت، أنّ "العراق اليوم وبجميع مكوناته وجهاته السياسية لن يسكت عما يحصل وسيواجه هذا التمدد الكويتي الفاحش".
وتحدث الصالحي، عن "حراك شعبي ونيابي وسياسي في البصرة لرفض التنازل عن الأراضي الحدودية، يشمل تظاهرات وفعاليات مختلفة"، مشيرًا إلى أنّ "البصريين سيوقفون هذا التنازل بكل الطرق السلمية".
لا ثقة بأطراف السلطة
وتشكك أطراف سياسية وشعبية في قدرة المسؤولين العراقيين بما يتعلق بالملفات الحدودية، وهو ما يؤكده النائب عدنان الجابري.
ويقول الجابري لـ "الترا عراق"، إنّ أهالي أم قصر "يدفعون ثمن أخطاء نظام صدام حسين وهذا النظام"، مبينًا أنّ أهالي المنطقة الغنية بالنفط "غير مقتنعين بأداء الحكومة في ملف الحدود مع الكويت".
ويتهم الجابري السلطات الكويتية بـ "التمدد على أرض العراق، واستغلال سنوات الأوضاع الصعبة دون أي مواجهة ودفاع من قبل السلطات العراقية"، مشيرًا إلى مزارع كبيرة "استحوذت عليها الكويت وفق قرارات أممية مجحفة بعد تنازلات عراقية قبل 2003 وبعدها".
ويعتقد الجابري بضرورة أن يلجأ العراق إلى "المحاكم الدولية لاستعادة حقوقه، وترسيم الحدود وفق الوثائق التاريخية"، محذرًا من "الخضوع للاتفاقات الجديدة التي تخنق العراق بحريًا".
يشكك سياسيون وخبراء وناشطون في نزاهة المسؤولين العراقيين وقدرتهم على إدارة ملف الحدود مع الكويت
ويرى الجابري أيضًا أنّ المفاوضات وكلّ ما يتعلق بالحدود مع الكويت "يجب أن تجري علنًا، مع إشراك مختصين فنيين مهنيين لتقديم المشورة قبل حسم أي اتفاقات".
العيداني يصوب نحو الإطار
مقابل كلّ هذا، يقول محافظ البصرة أسعد العيداني إنّ إثارة القضية الآن "لعبة سياسية" تنفذها أطراف من أجل "مصالح انتخابية".
وينفي العيداني إبرام اتفاق جديد بما يتعلق بالحدود البرية في أم قصر، مشيرًا إلى أنّ ما جرى هو استكمال اتفاق على إخلاء المنطقة الحدودية ضمن الأراضي العراقية من عوائل تقطن نحو 100 منزل.
واتهم العيداني نواب الإطار التنسيقي عن البصرة بإثارة الأمر لمغازلة الجمهور في البصرة قبل الانتخابات، حتى وإن كان في الأمر "تبييض لوجه رئيس النظام السابق صدام حسين".
وقال العيداني في مقابلة تلفزيونية تابعها "الترا عراق"، إنّ النائب عدي عواد اعترف بإثارة الملف لـ "هدف إعلامي" في رسالة بعثها إليه ردًا على استسفار حول تغريدة النائب التي قال فيها "إن اليد التي تمد على الأراضي الحدودية ستقطع".
العيداني لم يستثن نواب البصرة الآخرين ممن كتب عن الحدود البرية، وقال إنّ النائب رفيق الصالحي "يسكن على الحدود"، وعشيرته تعيش من "الزراعة على الحدود، وهو يعرف بوضوح حقيقة الأمر، وقد طلب توزيع المساكن التي بنتها الكويت لعوائل الشهداء".
وأكّد العيداني، أنّ "ذرة تراب من أم قصر لن تذهب إلى الكويت"، وأنّ الحدود "لن تزحف عن خطها الذي رسم بموجب قرار الأمم المتحدة، وأقره نظام صدام في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1994".
"لعبة الانتخابات"
وشرح العيداني بعض التفاصيل، مبينًا أنّ التحرك الجديد "لا يعدو نقل العوائل التي تسكن في الشارع المحاذي للدعامات الحدودية إلى مجمع بنته الكويت، بعد تجهيزه بالماء والكهرباء".
وقال إنّ "العوائل العراقية الساكنة على الحدود الكويتية استلمت جميع المنازل ولم تسكنها حتى الآن"، داعيًا البرلمان إلى إرسال "لجنة لزيارة الدعامة 106 المتاخمة للحدود العراقية الكويتية، والتحقق من الأمر".
ينفي العيداني التفريط بـ "ذرة تراب واحدة" ويؤكّد أنّ ترسيم الحدود ليس من صلاحيات حكومة البصرة فيما يعتبر إثارة الملف جزءًا من الحرب الانتخابية
وركز العيداني في حديثه على ربط الملف بالدعاية الانتخابية لأطراف الإطار التنسيقي، مع اقتراب الاقتراع لتشكيل الحكومات المحلية، حيث يرى في إثارة الملف حملة لمعاقبته لـ "عدم الاشتراك" مع أطراف الإطار في قائمة انتخابية واحدة.
متى خسرنا القاعدة البحرية؟
وبعيدًا عن التنافس السياسي، لا يقنع رد العيداني المختصين خاصة بما يتعلق بخط الحدود الواصل إلى القاعدة البحرية العراقية القديمة "مرسى الحوامات"، والتي قال محافظ البصرة إنّها باتت جزءًا من الكويت الآن.
ويقول عضو نقابة البحريين العراقيين علي العقابي لـ "الترا عراق"، إنّ "اتفاق ترسيم الحدود مع الكويت يحمل الكثير من الغبن للعراق الذي يعيش أوضاعًا صعبة، أمام ما تنفقه الكويت من مليارات على هذا الملف، بعضها ذهب إلى مسؤولين عراقيين".
ويخشى العقابي، أن "تستولي الكويت على مساحات أكبر من الأراضي العراقية بالطريقة غير الشرعية ذاتها"، مبينًا أنّ "حديث محافظ البصرة أسعد العيداني عن حسم الترسيم للحدود البرية غير واقعي، حيث كانت القاعدة البحرية القديمة من ضمن حدود أم قصر لغاية عام 2003، وكانت الزوارق والسفن الحربية ترسو في القاعدة للصيانة وغيرها".
ويسأل العقابي، عن آلية ووقت "ترسيم الحدود لتصبح القاعدة جزءًا من الأراضي الكويتية"، وعن مصير الأراضي الصحراوية المحايدة التي كانت تحت سلطة الأمم المتحدة، والتي تبدأ من خارج أم قصر، على حد وصفه.
ويوضح العقابي، أنّ الحدود الكويتية كانت تبدأ على بعد ساعة من مدينة أم قصر حيث "مركز ختم الجوازات في منطقة المطلاع، خلال ثمانينيات القرن الماضي"، ويرى في زحف الحدود إلى المدينة "خيانة تنطوي على فساد أو أجندة".
الحكومة صامتة؟
وتبدو المسألة أشد تعقيدًا بالحجيث عن الحدود البحرية، إذ يقول العقابي إنّ "حسم الملف بوجود السلطة الحالية في العراق يعني ترسيخ التجاوزات الكويتية على المياه العراقية وآبار النفط".
ويتطابق حديث العقابي مع تغريدات وتعليقات الناشطين والمتفاعلين الذين تصدرت تغريداتهم منصة تويتر العراقية بوسم "لا نبيع أم قصر"، في حين لم تصدر الحكومة أي تعليق حول التحركات الجديدة التي كشفت عنها زيارة وزير الخارجية الكويتي هذا الأسبوع.
يخشى مختصون "استيلاء" الكويت على مزيد من الأراضي والمياه الإقليمية العراقية في ظل ضعف السلطات في بغداد وتفشي الفساد
ويبدو صمت الجهات الرسمية في بغداد مفهومًا كما يعبر الخبير في مجال ترسيم الحدود جمال الحلبوسي، الذي يعتقد أنّ التحرك ينطوي على اجتزاء مساحات جديدة من الأراضي العراقية بـ "موافقة أصحاب السلطة في العاصمة".
ويقول الحلبوسي لـ "الترا عراق"، إنّ "على الحكومة والمفاوض العراقي الانتباه لخطورة قضية الحدود البحرية، فالكويت أخذت الأراضي العراقية وتمددت على المياه الإقليمية وطالبت بأمور فوق استحقاقاتها"، مشيرًا إلى ضرورة "الاستعانة بمختصين لحسم الملف بشكل صحيح يحفظ حدود العراق، ويجنب الأجيال القادمة صراعات محتملة جديدة".
العراق بلا وثائق!
ويقع ملف الحدود بالدرجة الأساس على عاتق وزارتي الخارجية والنقل، حيث أصدرت الأخيرة في وقت سابق بيانًا شديد اللهجة باسم الوزير رزاق محيبس توعد بالطعن في قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالحدود مع الكويت، واتهمت السلطات الكويتية بالتجاوز على الحدود البحرية، قبل أن يسحب محيبس البيان ويؤكّد "احترام قرارات الأمم المتحدة".
وتسود مخاوف من استمرار الزحف الكويتي على الأراضي العراقية كما يصف الحلبوسي، محذرًا من أنّ "التنازل عن شبر الآن يعني خسارة آلاف الأمتار من الأراضي العراقية لاحقًا".
ويرى الخبير في قضايا الحدود، أنّ "الكويت تنتهج سلوكًا عدوانيًا تجاه العراق، عبر محاصرته بحريًا، والاستيلاء على أراض حيوية برًا، ما يستوجب مفاوضات حازمة تعيد الحقوق إلى أصحابها".
ومع كلّ هذا الجدل لا يمتلك العراق ما يكفي من الوثائق في حين تواصل الكويت تعزيز موقفها بوثائق وحجج مودعة لدى الأمم المتحدة، كما أكّد وزير النقل العراقي في البيان الذي سحبه لاحقًا.
ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة أحمد صدام لـ "الترا عراق"، إنّ "كل تفاصيل ترسيم الحدود بين العراق والكويت مرتبطة تاريخيًا باتفاق خيمة سفوان، الذي يشوبه الكثير من الغموض لوجود وثائق تخصه لا يملكها العراق".
ويوضح صدام، أنّ "النظام السابق قدم تنازلات مذلة في الخيمة بعد خطيئة الغزو الكبرى، وصدر بناءً عليها قرار الأمم المتحدة 833 في عام 1993"، مبينًا أنّ "العراق قبل حينها بكل الشروط الكويتية وخضع للقرارات الأممية بكل تفاصيلها".
لا يملك العراق وثائق كافية يمكن الاستناد إليها بما يتعلق بالحدود البرية والبحرية مع الكويت
ويضيف أستاذ الاقتصاد، أنّ "الكويت الآن تتحدث بهدوء وقوة، لأنها تمتلك وثائق مهمة توضح حقوقها التي تستطيع أخذها من العراق، مقابل موقف ضعيف لبغداد التي لا تملك ما تدافع به عن حقها التاريخي في هذه الأراضي".
ويرى صدام، أنّ "التنازل بقبول التناصف في خور عبدالله وفق الشروط الكويتية، تكرر الآن بقبول الشروط أيضًا، دون امتلاك ما يثبت العكس أو يوقف التمدد الكويتي".
تحرك صدري
وبالعودة إلى أم قصر، شهدت المنطقة الحدودية في الساعات الأولى من فجر الأربعاء 2 آب/أغسطس، بعد 33 عامًا بالضبط من لحظة غزو الكويت، تحركًا لمجاميع من التيار الصدري احتجاجًا على إجراءات إخلاء الشريط الحدودي حيث نشر أنصار التيار صور زعيمه مقتدى الصدر عند مدخل المدينة.
فيما تداولت منصات عراقية مشاهد تظهر مركبات تقل مسلحين من "سرايا السلام"، قالت إنّهم انتشروا في المدينة بعد منتصف الليل.