وسط تفاقم أزمات الجفاف والتصحر وتراجع الزراعة في العراق، تستمر أهوار الجنوب في الحفاظ على خصوصيتها، سيما في مجال الصيد والزراعة وتربية المواشي، ورغم التطوّر الحاصل في صناعة الأدوات الخاصة بالزراعة، إلا أنها تحافظ على الأدوات التقليدية بوجود صنّاعها القدامى الذين توارثوا المهن من أجدادهم.
يصنع "أبو سعد المندائي" أدوات الزراعة للفلاحين في أهوار ميسان منذ ستينيات القرن الماضي
"أبو سعد المندائي"، أحد اقدم أصحاب المهن في ميسان، يمارس مهنة النجارة والحدادة منذ ستينيات القرن الماضي، ولا يزال يعيش في أهوار العمارة ليرفد مزارعيها بكل ما يحتاجونه من أدوات زراعية وأخرى تخص الصيد.
ولد "أبو سعد"، في العام 1955، من طائفة الصابئة المندائية، وهو من عائلة ميسانية تمتد جذورها إلى سنوات قديمة، كما يقول وهو يروي قصته مع الزراعة وصناعة أدواتها لـ"ألترا عراق".
إرث الأجداد
يقول "أبو سعد المندائي"، إنّ "المهنة التي يزاولها الآن هي متوارثة من أجداده وصولًا إلى أبيه الذي نقلها له، مضيفًا أنه "منذ ستينيات القرن الماضي وكان عمري لا يتجاوز 8 سنوات بدأت بمزاولة مهنة النجارة وتلك المهنة رغم أنها متوارثة إلا أنني أحببتها كثيرًا".
وفي حديثه لـ"ألترا عراق"، يشير المندائي إلى أنه بدأ المهنة من سن صغير، حيث "كنت أتعلم صناعة الأدوات الخاصة بالزراعة، وأول أداة صنعتها هي المرواح، وهي أداة خاصة يذرى بها القمح والشعير في الهواء لتنظيفه من الشوائب، وتلك الأداة تتعلق بشكل رئيس في عمل الفلاح".
ولم تمنع خدمة التجنيد الالزامي "أبو سعد" من العمل بمهنته، حيث يقول إنني "شاركت في الخدمة العسكرية وكنت أمارس الحرفة عند نزولي من الدوام وأقوم بمساعدة والدي الذي كان يتعب في تلك المهنة".
وأضاف: "عندما كبر والدي بدأنا أنا وأخوتي في إكمال مسيرته في النجارة وصناعة أدوات الزراعة خاصة، ونحن لدينا زبائن من عدة مناطق يقصدونا لشراء ما يحتاجون من أدوات زراعة أو صيد، لذلك صار دافعًا لنا بالالتزام بتلك المهنة ووراثتها".
ويتحدث "أبو سعد" أيضًا عن ثقة المزارعين بعملهم، قائلًا إنّ "زبائننا يقدرون عملنا والأدوات التي نصنعها، لكونها مصنوعة من قطع ممتازة، بالإضافة إلى أنّ عملنا مميز وغير مغشوش".
خصوصية الصابئة في النجارة
يوضح "أبو سعد المندائي" طبيعة وجود أبناء ديانته "الصابئة" في ميسان على الرغم من الظروف التي واجهتهم في السنوات الماضية، حيث يؤكد أنّ "الصابئة معروف عنهم بالعمل في مجال النجارة والحدادة في المحافظة".
ويقول المندائي إنّ "أبناء الديانة الصابئة المندائيين يعيشون في العمارة بمحافظة ميسان منذ القدم، تدرجًا من نبي الله آدم، ولا يزال عددًا كبيرًا منهم لغاية اليوم".
وفي بداية الثمانينات، كان عدد أبناء هذه الديانة في العراق يقدر بنحو مئة ألف، لكن العدد انحسر بعد الحربين اللتين خاضهما نظام صدام حسين ضد إيران والكويت، وصولًا إلى الغزو الأمريكي عام 2003.
الشيخ ستار جبار الحلو، وهو زعيم طائفة الصابئة المندائيين في العراق والعالم، قال في تصريحات، إنّ عدد أتباع الطائفة في العراق كان يبلغ قبل العام 2003 حوالي 75 ألف شخص، مؤكدًا أنّ "الرقم تراجع إلى 15 ـ 20 ألفًا إثر عمليات التهجير".
دينيًا، ذكر القرآن الصابئة في ثلاث من سوره، وهي الحج والبقرة والمائدة، ويرى بعض الباحثين أنه من الصعب أن يعرف للديانة المندائية مؤسّس، وهذه الخاصية ميزتهم عن اليهودية والمسيحية والمانوية وحتى الإسلام وغيرها من الديانات.
ومن كتبهم المقدسة، كتاب "الكنزا ربا" أي الكتاب العظيم، ويحتوي على صحف الأنبياء الذين يؤمنون بهم كآدم وشيت وأدريس ويحيى، وحول هذا يقول الباحث العراقي رشيد الخيون، إنّ "من يدرس كتاب المندائيين الكنزا ربا، ويقارنه بنصوص القرآن، ويدرس فقههم ويقارنه بالفقه الإسلامي سيجد الموافقة واضحة بين الديانتين".
أما لغتهم فهي اللغة المندائية، والتي تنحدر من الآرامية، لكن قليلين جدًا من يتحدثون بها، إذ أصبحت مقتصرة على الكهان ورجال الدين والتي يتكلمون بها خلال الطقوس التعبدية، وتتكون درجات الرجال عندهم بالشكل التالي، الشكندة، الحلالي، الترميده، اللنزا برا، ريشمة "الكاهن الملك" والرباني، والأخيرة لمن يحصل عليها سوى يحيى المعمدان.
وبالعودة إلى "أبو سعد المندائي"، فإنّ "الكثير من الأشخاص من الصابئة كانوا يمارسون مهنة النجارة وصناعة أدوات الزراعة في الأهوار وأورثوا تلك المهن إلى الأبناء منذ القدم"، كما يقول.
ولفت إلى أنّ "المزارعين كانوا في القدم يستخدمون الأدوات البدائية في الصيد والزراعة والزوارق".
أدوات لا غنى عنها
وعلى الرغم من التطور الحاصل في الآلات الزراعية، إلا أنّ بعض أنواع المحاصيل الزراعية تحتاج إلى أدوات خاصة لحصادها، كما يشير "محمود الميساني"، وهو فلاح من مدينة العمارة، إضافة إلى أنه من رواد ورشة "أبو سعد المندائي".
ويقول لـ"ألترا عراق"، إنّ "هناك محاصيلًا مثل الحنطة والشعير يمكن حصدها من خلال الآلات الزراعية المعروفة بـ(الحاصودة) لكن بعض المزروعات تحتاج إلى أدوات خاصة وهي قديمة".
ويتمّ استخدام المجرفة والمسحاة والحاشوشة (المنجل) لزراعة أو حصد بعض النباتات والمحاصيل، مثل "البرسيم والجت وحتى الخضروات وهي تتطلب عملًا يدويًا"، وفقًا للميساني.
وعن شراء الأدوات المطلوبة، يوضح محمود أنه "نشتري تلك الأدوات من المختصين بصناعة أدوات الزراعة والصيد وأيضًا تحتاج تلك الأدوات للحدادة والبرد بعد الاستخدام لمرات متعددة".
ولا مقارنة بين ما يصنعه أصحاب الورش المحلية والمستورد كما يقول الميساني، حيث لفت إلى أنّ "الأدوات التي يصنعها النجارون في ميسان أفضل من المستورد، حيث أنهم يعرفون ما يحتاجه الفلاح وطرق استخدامه، على عكس الأدوات المستوردة والتي تصنع في دول ربما ليس لها دراية بطرق استخدامها من قبل المزارع الميساني".
بعض أنواع المحاصيل الزراعية تحتاج إلى أدوات خاصة لحصادها
وبحسب الميساني، يرغب العديد من المزارعين والفلاحين في شراء أدوات الزراعة من الحدادين من المنطقة لكون صناعتهم "ممتازة وأصلية، وهم يلبون ما نحتاج ويمكن أن نطلب منهم صناعة الآلة وفق ما نرغب".