عادةً ما يتمثّل الولاء القبلي في "عقد روحي" يعطي للقائد صلاحيات شاملة، بموجبها تجري عمليات النبذ والإقصاء لمن يخالف "دستور" القبيلة. إنه عقد بين طرفين يبيح الطرف الموالي للطرف المولى التصرّف نيابة عنه. وقد كانت التحشيدات العسكرية في صدر الإسلام وما قبله تجري في سياق التحشيد القبلي، تصطف الصفوف خلف قائدها فيما لو دعاهم للحرب، وبخلافه يعلن الموالون عصيانهم جريًا على عادة الجماعات القبلية وارتباطهم العميق برئيس القبلية في حال السلم و الحرب.
غير أن الولاءات اتّخذت بعدًا دينيًا أو قوميًا حينما تمكّن الإسلام من فرض نفوذه بشكل عام، لكن سرعان ما كانت تظهر جذور الولاءات القبلية في الحروب الأهلية وفي سياق التنافس على شرعية السلطة، وكانت نكبة السقيفة وما تلاها من انشقاقات مؤشرًا واضحًا على سيادة مفهوم القبيلة والانتصار لهذا الأخير على حساب القيم الجديدة.
هناك قبائل عراقية تضم عدة عشائر متباينة مذهبيًا، لكنّها لم تتأثر في علاقاتها القبلية، وبقيت متماسكة
عقيدة من نوع آخر
لا يخرج المرء من بيئته الثقافية، ولا يمكنه التفكير خارج سياقه الثقافي بشكل عام، والاستثناءات موجودة على أي حال، ويلعب نوع العلاقات الاجتماعية دورًا بارزًا في تحديد نمط تفكير وسلوك الفرد؛ ففي المجتمعات المتقدمة تقوم العلاقات على أسس "عقلانية"، ذلك أن مفهوم المجتمع يحيلنا إلى ضرب من العلاقات القائمة على سلطة العقل: إنها تعاقدات عقلانية بشكل عام، وكان للدولة دور جوهري في غربلة هذه العلاقات بهذا الشكل.
غير أن جذور وامتدادات ومفاعيل العلاقات القرابية لا زالت حاكمة ومؤثّرة في وجدان الفرد العربي عمومًا، والعراقي على نحو الخصوص. تَشخَص هذه الظاهرة كعلامة بارزة، وتشكّل قوّة مؤثّرة تنعكس ظواهرها على مجمل علاقاتنا الاجتماعية والسياسية. بكلمة أخرى، تشكّل الخطوط العريضة للعقيدة العراقية. لا تنحصر هذه العلاقات في جماعات محدّدة، وإنما تتعدّاها لأغلب الفئات الاجتماعية، سواء كانت في السُلّم الأعلى للرتب الاجتماعية أو في أسفل القاع للفئات المسحوقة. بتعبير أكثر دقّة: إنها تشمل وتغطي الطبقات العليا والوسطى والدنيا وتدخل في مساماتها بنفاذٍ وعمق، ما يجعلها عقيدة شاملة وأفق تفكير للعقل العراقي، لذا حتى الجماعات التي تقع تحت التصنيف المذهبي، فطريقة التفكير المتّبعة لديها لا تخرج من هذه العقيدة المتماسكة!
اقرأ/ي أيضًا: العشائرية في الانتخابات العراقية.. الديمقراطية أثاثًا وضيافة
وقد نجد قبائل عراقية كبرى تضم عدة عشائر متباينة مذهبيًا، لكنّها لم تتأثر في علاقاتها القبلية، وبقيت هذه الأخيرة متماسكة وتمارس مختلف العلاقات الاجتماعية، ولم يمنعها ذلك التباين المذهبي من المصاهرات المستمرة فيما بينها.
بركان الهويات
شهد العراق ما بعد الغزو الأمريكي انفجار بركان الهُويّات الفرعية بفعل الغياب المتعمّد لمؤسسات الدولة؛ قضاء مُسَيّس، ومؤسسة عسكرية تفتقد للعقيدة الوطنية، وسلطة فاسدة تحتمي بمقولات طائفية وعرقية وقبلية، فكانت أشبه بحالة "ما قبل الدولة"، إلى حدٍّ كبير. ويمكن القول إن الولاءات الهامشية (مقارنة بالولاء للدولة) هي الميسم الذي طبع المشهد السياسي العراقي بطابع الهويات الفرعية التي تعمل كقوّة موازية لسلطة المؤسسات الرسمية، فكانت القبيلة، وما زالت، عنصرًا مكوّنًا وجوهريًا في البنية الاجتماعية.
وعمر القبيلة طويل وله امتدادات تاريخية تتعدّى عمر الطائفية بكثير، وأكثر إيغالًا ورسوخًا في وجدان العراقيين، فالطائفية لم تستطع الخروج والانفلات من إطار السياسة، بتعبير آخر، إنها طائفية سياسة وليست اجتماعية، لذلك لم تنطلِ هذه الكذبة كثيرًا، فسرعان ما خَفَتَ بريقها وانتهت مسوّغاتها نسبيًا، وإن كانت الاصطفافات الطائفية ما زالت باقية بصورتها النمطية، الأمر الذي شهد أكبر صدمة لبعض الساسة في الانتخابات النيابية الأخيرة، إذ شهد أكبر هزيمة مدوية "لكبار" الطائفيين في مناطقهم الانتخابية.
شهد العراق ما بعد الغزو الأمريكي انفجار بركان الهُويّات الفرعية بفعل الغياب المتعمّد لمؤسسات الدولة
والمهم هنا تسليط الضوء على تنامي الحسّ القبلي وظهوره بقوّة بعد الغزو الأمريكي، باعتباره البديل الأكثر عمقًا وإيغالًا في ذهنية الفرد العراقي وسلوكه. فإذا انحسر الخطاب الطائفي، بتقليعته السياسية، بشكل نسبي، فما زال الوجدان القبلي يشكّل بعدًا حيويًا وفاعلًا في ذهنية وسلوك الفرد العراقي.
العشيرة تنتصر!
يغدو السجال العشائري في أكبر سلطة تشريعية أمرًا طبيعيًا، فضمن هذا السياق يتقّلب المشرّع العراقي بين القوانين المدنية والعشائرية؛ يستخدم الأولى متى ما كانت محايدة وبعيدة عن إثارة الجدل ولا تمسّ الكبرياء الشخصي، أما في الحالات المصيرية لم يتوانَ هذا المشرّع من استدعاء عشيرته طلباً للثأر، إذ لا مجال للقانون المدني في مثل هذه المواقف. وقد شهد البرلمان العراقي خصومات بين بعض النوّاب أفضت في نهاية المطاف إلى التحكيم العشائري لبسط العدل بين المتخاصمين!
وفي خصومات من هذا النوع تعلن الدولة حيادها النسبي من التدخّل في فض النزاعات العشائرية، حيث شهد العراق نزاعات مماثلة في أغلب محافظات العراق ولم تستطع الدولة بسط نفوذها في تلك المناطق، خصوصًا أن أغلب القطعات الأمنية تتوزّع ولاءاتها حسب الخريطة العشائرية، ويغدو التدخّل من الآخرين خرقًا فاضحًا للسنن العشائرية، وقد يتعرض الفرد المتدخل لنوع من المساءلة فيخضع لـ"الديّة" العشائرية. ولكي لا نقع في المبالغة، لا نعني الغياب المطلق للدولة ودورها الأمنيّ، وإنما يصعب عليها فضّ النزاعات ذات الطابع العشائري حتى وإن احتكمت للقانون.
الحق المقدّس
من الطريف أن أكثر المتديّنين ولاء لأحكام للشريعة لا يقوى على مخالفة بنوده العشائرية، فيما لو تعرّض إلى مكروه فسينتفض "الأعمام" لردّ هذا المكروه، ومهما أخذ القانون الرسمي مجراه، ومهما تدخّلت القطعات الأمنية، فسيبقى حق العشيرة محفوظًا، ولا يحق للدولة إسقاطه. فالثأر العشائري حق "مقدّس" لذوي العشيرة للمتدينين وغيرهم. لذا يفضّل الكثير من المتديّنين "الديّة" العشائرية على "الديّة" الشرعية، فالأولى، ضمن منظور العشيرة، أكثر" قدسية" من الثانية.
في حين تعرّض الكثير للمساءلة القانونية في قضايا الشرف العشائري ونالوا جزاءهم العادل، لكنّهم لم يضمنوا ردود الأفعال المضادة. ببساطة شديدة: إن الدولة عاجزة بشكل كبير عن إيجاد الحلول الجذرية لكبح جماح العشيرة. هناك "شفرة" يحفظها العراقيون عن ظهر قلب، وهي إذا حاول أحد ما التدخّل في عراك، فسيتجنّب الوساطة فيما لو سمع عبارة "مطلوب عشائرياً"، وكما قلنا، حينها لا يسعه إلّا اتخاذ موقف الحياد والفرجة.
ما زالت الألقاب العشائرية تستخدم كـ"أوسمة" و"نياشين" بين مختلف الفئات الاجتماعية العراقية فسواء كان الفرد متدينًا أم لا، تبقى رمزية اللقب تداعب دلالاتها وجدان الرفد العراقي، فضلًا عن الرموز الثقافية كالأعلام التي تحدّد هوية العشيرة وتاريخها، ويندر العثور على عشيرة لا تتوفّر فيها سارية ينتصب فيها العلم مرفرفًا يشهد على تاريخ أسلافها الغابرين. يصل التفاخر العشائري إلى أٌقصاه، وقد نجد الفئات الأكثر تدينًا منخرطة في العصبيات العشائرية، وبطريقة كفاحية، معلومة لمختلف العراقيين، ويغدو التفاضل بين التنوّعات العشائرية قائمًا على قدم وساق؛ العشيرة الفلانية تتصف بالمروءة والشهامة، والأخرى يكثر فيها الجبناء، والثالثة تتسم بالغلظة والعدوانية..الخ. ولم يعد هنا مكان للدين في مثل هذه اللحظات "المقدسة"، فالذاكرة تلعب لعبها، ويُعرَف القوم من فلتات ألسنتهم، وعند هذا الحد يتوقف الورع الديني تمامًا!
شريعة العشيرة
للعشيرة سلطاتها المستقلّة، وقانونها التشريعي وقوّتها التنفيذية والقضائية الخاصة، وخطابها "الدبلوماسي" الخاص، وتحظى زعاماتها بالتبجيل والتقديس والهيبة والوقار، وفي المعارك التي تشهدها بعض العشائر، فإن قانونها يقضي برحيل المعتدي عن محل سكناه، ويحق لأهل الضحية الهجوم على داره ليلًا، كما ويحق لهم أن يحتجزوا الدار ويكتبوا على واجهتها "مطلوب عشائريًا".
اقرأ/ي أيضًا: مقاطعة الانتخابات العراقية.. مواجهة سلمية ضد محاصصة ما بعد الغزو الأمريكي
تتمتع العشيرة بنظام جباية يضمن لها ديمومتها، ومن خلال هذه الجباية يمكنها إدارة نزاعاتها المستمرة، كما أنها تستند على "شريعتها" الخاصة التي يحق لها تحديد السن "القانونية" للذكور الذين تشملهم الجباية داخل نظام العشيرة، لكي يتمكّنوا من الاستفادة من "ريع" الجباية فيما لو طالتهم بعض النزاعات العشائرية، والمعارك التي تصل حد القتل. وكذلك يخضع الفرد المنتمي لدائرة النبذ والإقصاء فيما لو عصى أوامر علية القوم، أو سبّبَ حرجًا لأفراد عشيرته، فعند ذاك يحكم عليه بالطرد من العشيرة بإشعار خطي يمضي عليه الشيخ، ومن ثمّ ستكون العشيرة في حلٍ من انتمائه، فهو الآن منبوذ عشائريًا وقد "كسِرَتْ عَصَاه"، حسب تعبير العرف السائد فيما بينهم. وكلما كانت العشيرة تقترب من الأطراف، كانت هذه الأحكام أكثر رسوخًا في ذهنية الفرد، بينما تتمتع العشائر القريبة من مراكز المدن بفسحة من التحرر من هذه الأعراف.
خزّان السلطة
عند غياب الدولة ومؤسساتها يغدو الكلام عن الديمقراطية مضيعة للوقت، ويبدو أن تضخيم السلطة على حساب الدولة هي السمة الأبرز عند الحكّام العرب، فمن هذه الناحية ستكون الوشائج القبلية هي الشكل التعبيري الأمثل لإسناد السلطة وتضخيمها على حساب الدولة ومؤسساتها. فما دامت علاقات القربى هي التي تحدد شكل السلطة على حساب المهنية والكفاءة، فسيكون العراق التجربة الأكثر عمقًا في تضخيم قوة العشيرة وجعلها أشبه بالخزّان الذي يغترف منه الحاكم امتيازاته المعنوية.
لقد كانت العشيرة التي ينتمي لها "صدّام حسين" من أكثر عشائر العراق قوّةً وثراءً، وكانت في السلّم الأول من هبات السلطة التي تُغدق عليهم، وكانت لهم الحظوة في التسلّق إلى المناصب العسكرية والإدارية، ومن النادر جدًا خضوع أحد أفراد عشيرته إلى المساءلة والعدالة ما عدا الأمن الشخصي للرئيس، فعند الوصول لهذه العتبة فلا شفيع يمكنه التقرّب من هذه النقطة المرعبة حتى لو كان من صلبه!
من الطريف أن أكثر المتديّنين ولاء لأحكام للشريعة لا يقوى على مخالفة بنوده العشائرية
وعمدت حكومة البعث على تضخيم هذه الظاهرة عبر التمسّك بالألقاب العشائرية، وحاول صدام حسين إلغاء الألقاب العشائرية لكنّه رجع إليها بخفي حنين فيما بعد. وكان حزب البعث "العَلماني" يتعامل مع هذه الألقاب بحميمية عالية، فلا يغادر المرء مصادر قوّته والدعامات الأساسية التي تثبّت سلطته.
لم يتغيّر الأمر كثيرًا، فما زالت هذه القرابات تلعب دورًا محوريًا لدعم الساسة مقابل الوفاء لعشائرهم بالدعم المادي والمعنوي، إذ يصعب العثور على سياسي في السلطة ما لم يدّخر من إرثه العشائري سندًا يحميه من المخاطر الأمنية، ولذلك نجد أن معظم الحمايات الشخصية للساسة العراقيين هم من أفراد عشيرتهم. والمطّلع على الحملات الانتخابية في العراق سيجد دور العشيرة المحوري في تقديم الإسناد المعنوي لـ "ابنها البار" في معركة الديمقراطية!
الولاء للدولة
العراق أمام تفاضلات لاعقلانية قائمة على عشائرية تتّخذ من الهوية الفرعية نقطة انطلاق لتعاقدات متينة، تجهض أيّة محاولة جادة لبناء مؤسسات الدولة، وقد فشلت كل الحكومات السابقة في إيجاد الحلول اللازمة للقضاء على هذه الحالة. نقطة الشروع الأولى هي أن تتوفّر الدوافع الحقيقية لبناء دولة المواطنة وسنّ القوانين الصارمة للقضاء على هذه الظاهرة التي تجهض أيّة محاولة للتأسيس.
عمدت حكومة البعث على تضخيم ظاهرة القبلية عبر التمسّك بالألقاب العشائرية
يبدأ تغيير العلاقات الاجتماعية في تشكيل القوى الثلاث: الاقتصادية، العسكرية، والسياسية على أسس مهنية واحترافية يكون فيها الولاء، أولًا وآخرًا، للدولة، عبر خلق كوادر إدارية عابرة لسلطة المذهب والقبيلة، وهذا لا يأتي دفعة واحدة بالتأكيد، وإنما عبر عملية تراكم طويلة، وإن لم تتوفّر هذه الدوافع، فسيبقى العراق تعبيرًا واضحًا وجليًا لحالة ما قبل الدولة، وستبقى الديمقراطية في العراق مجرّد شكل تعبيري مزيّف لا يعكس علاقاتنا الاجتماعية المضطربة.
اقرأ/ي أيضًا: