السؤال الذي يشغل حيّزًا واسعًا في ذهنية العربي هو كالتالي: لماذا لا نأخذ بأسباب التقدم الغربي وننهض بشعوبنا ونساهم بحركة الحداثة؟ وعلى الرغم من أهمية السؤال، تأتي الأجوبة، عادةً، مبتورة وانطباعية وانتقائية، وتتعرّض إلى فصل نظري لا وجود له في الواقع، وهي أقرب للحصص المدرسية منها إلى الوقائع التاريخية. فنحن، على سبيل المثال، نفصل بين تاريخ الحداثة وتاريخ الاستعمار، بين النهب والسلب والحروب التي قامت بها الإمبراطوريات والدخول الهائلة التي راكمتها حملات القرصنة على شعوب العالم.
نحن نفصل بين تاريخ الحداثة وتاريخ الاستعمار، بين النهب والسلب والحروب التي قامت بها الإمبراطوريات والدخول الهائلة التي راكمتها حملات القرصنة على شعوب العالم
يقول كارل بولاني، ما مضمونه، إن ما تلقيناه من التاريخ الكلاسيكي عن الثورة الصناعية هو أمر مقلوب تمامًا عن نشأة الرأسمالية في الغرب، إذ لم تولد الثورة الصناعية من الداخل وبطريقة مترابطة قامت بها النخب الأوروبية، مثل اللوثريين والكالفينيين، وعملت بجد لتفجير الثورة الصناعية راكمت رؤوس الأموال ودشنت طرق تجارية داخل أوروبا ثم تبعها توسع أمبريالي".
اقرأ/ي أيضًا: عالم يحكمه الأقوياء!
الأمر معكوس تمامًا بحسب بولاني، ذلك إن "غزو أوروبا للعالم الجديد في القرن السادس عشر والثروات الهائلة التي استجلبها إلى البرّ الأوروبي، مع نشوء التجارة بعيدة المدى لخدمة هذا النظام، هو ما أوصل الى تغييرات داخلية في أوروبا نفسها، وتطوّرٍ في الاستثمار والأرباح وشكل رأس المال، وضغوطٍ لخلق "اقتصاد وطني" وسلعٍ للتصدير. وهذا كلّه كان قائمًا على عمليّة نهبٍ ونقلٍ للثروة استمرّت بلا توقّف، على يد الإسبان، ومن ثمّ الهولنديون والبريطانيون، ودمّرت قارّة بأكملها وأبادت حضارات. أمّا المحركات البخارية والابتكارات وتقدّم التقانة، خارج المجال العسكري، فهي جاءت بعد قرون".
إنها عملية تتم فيها عملية التبادل اللا متكافئ التي فرضتها القوى الدولية المتحالفة استراتيجيًا لغرض الهيمنة على دول "العالم الثالث"، وتركها في دائرة الفقر والتخلف ويمنع عليها الدخول في ضمن قائمة الدول المتطورة. ولضمان فاعلية المهيمن تجري عملية الاحتكار الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والإعلامي ومراكز البحوث الإستراتيجية، وخلق يد عاملة متطورة وبيئة رفاه اجتماعي، شريطة أن تبقى تلك الدول الطرفية مرتبطة بالمركز الاقتصادي المهيمن لدول المركز لضمان تدفق السلع والهيمنة على مصادر الثروة عبر عملية التبادل غير العادل.
فمن هذه الناحية تبقى البلدان الطرفية تعاني من العمالة الرخيصة وسوء توزيع الثروة والاعتماد على اقتصاديات ريعية، وفقدان أمنها الغذائي والدخول في حروب عبثية وعجز كامل عن توفير الأمن بكل مستوياته؛ فالدول العربية، وبالخصوص منطقة الخليج بكل ما تملكه من ثروات هائلة، لا يمكنها توفير أمنها الغذائي والعسكري ولا تتمتع ببنية صناعية وتقنية، إنها معرضة للسقوط في أي لحظة إذا ما تم التخلي عنها من دول المركز.
إذا فهمنا كيف تشكل العالم وكيف توزعت مناطق النفوذ وما هو دور سياسة القوة في بناء هذا البلد أو ذاك سنفهم، على الأقل، سياسات المصالح والاستيلاء كيف تحدث. نتصور أن العداء الأيديولوجي للغرب هو أس البلاء وجذر معاناتنا، والحقيقة أبعد من ذلك بكثير؛ فأوروبا حينما تطاحنت في حربين عالميتين كانت كلها دول رأسمالية ومتماثلة أيديولوجيًا.
اليمنيون لا يعشقون الحرب ومقاومتها، لكنها فرضت عليهم فرضًا، فهذا خيارهم الوحيد والمتاح للحفاظ على ما تبقّى من وجودهم أمام العدوان
نحن لا نملك ترف الاختيار في صناعة الحرب والسلام ولا يحق لنا التصرف خارج نطاق النفوذ العالمي. هذه ليست نظرة عدمية وإنما قراءة الواقع كما هو، وحينما تفرض حرب مدمرة على الشعب اليمني، مثلًا، فهو لا يمتلك ترف الاختيار ولا سبيل أمامه سوى مقاومة هذا العدوان.
اقرأ/ي أيضًا: نادي القمار الكبير
بعبارة أخرى، اليمنيون لا يعشقون الحرب ومقاومتها، لكنها فرضت عليهم فرضًا، فهذا خيارهم الوحيد والمتاح للحفاظ على ما تبقّى من وجودهم. والقارّة الأفريقية حينما تم تغييبها بالكامل ونهب ثرواتها من قبل المستعمرين ومراكمة جهلهم وتخلفهم ليس لأنهم شعوب "متخلفة" بالجوهر، وإنما عمدت سياسات القوة إلى تدميرهم كليًا..
بالمناسبة، الغربيون لا يحترمون الدبلوماسي العربي، هم يحترمونه بالقدر الذي يناسب نفوذهم، ولا يحترمون أي قوة تظهر في الشرق الأوسط تميل إلى الحلول الدبلوماسية، فهذا يعني أن هذه الدبلوماسية تتصرف خارج نطاق نفوذهم، فعلى "المارق" أن يدفع الثمن، وتركيا مثال ساطع في أزمتها الاقتصادية؛ وما إن ضغط الأمريكان الزر حتى تهاوت تلك البنية الاقتصادية.
شعر الأمريكان بـ"إهانة" بسبب نجاح الدبلوماسية الإيرانية على خلفية الأزمة النووية بين البلدين، فلم يهدأ بالهم، ومن خلفهم لوبيات الضغط، إلى أن ألغوا الاتفاقية، وعلاوة على ذلك فرضوا على الشعب الإيراني عقوبات مذلة.
الحرب والسلام ليس من اختيارنا، والبناء والهدم أمر موكول لنا بالنيابة!، وتراكم الأرباح في منطقتنا يجري حسب منطق التنمية المعكوسة؛ فماذا ينفع الشركات الاستثمارية البناء في اليمن قياسًا إلى الأرباح الطائلة التي تراكمها شركات السلاح؟
تجني شركات السلاح أرباحًا هائلة بالقياس إلى البناء، بحسب الاقتصادي علي القادري، فضلًا عن المشاكل المروّعة التي ستتركها هذه الحروب؛ ديون ثقيلة، بنية تحتية منهارة، انقسامات مجتمعية حادة، فوارق طبقية، نخب تابعة، وأنظمة استبدادية، ومهجرون تتوجه حياتهم للمجهول.
تجني شركات السلاح أرباحًا هائلة بالقياس إلى البناء، فضلًا عن المشاكل المروّعة التي ستتركها هذه الحروب؛ ديون ثقيلة، بنية تحتية منهارة، انقسامات مجتمعية حادة
تكمن المفارقة في هذا الواقع المأساوي هو أنه مأسوي بلا رتوش!، أعني أنه يجري بلا زيادة أو تأويل. لكن هذا الواقع يجري تلميعه وتركه وإهماله، لأن بعض الأقلام اكتشفت أن مشكلتنا هي "الإسلام السياسي" بالتحديد!
اقرأ/ي أيضًا: