في مشهد الحانة الشهير التي يظهرها فيلم تارانتينو (Inglourious Basterds) ينتبه الضابط الألماني أنّ نظراءه الضباط الذين يشاركونه الطاولة هم من الحلفاء ويتنكرون بزي ضباط ألمان، اكتشفهم عبر حركة يد واحدة ـ إن لم تكن قد شاهدت الفيلم فشاهده أو شاهد المشهد على الأقل ـ فالمقال هذا عن شيء يشبه ما حدث في المشهد.
يعتقد كثيرون أن قراءة لغة الجسد شيء يمكن تعلمه ببساطة أو ببعض الجهد وبقواعد ثابتة تنطبق على كل البشر في كل مكان
ذكر واحدٌ ممن يسمون أنفسهم "خبراء لغة الجسد" في مقال على حسابه الشخصي: "تعلّم لغة الجسد أمر فى منتهى البساطة، كل ما عليك فعله هو أن تتعلم الأوضاع المختلفة للجسد والحالة الشعورية التى يمثلها ومن ثم يمكنك معرفة ما يشعر به الآخرون من مجرد مراقبتك للغة جسدهم. ليس هذا فقط وإنما سيمكنك أن تعطى الانطباع الذى تريد عن طريق تحكمك فى لغة جسدك".
اقرأ/ي أيضًا: في أنثروبولوجيا الوعي (1ـ4)
يعتقد كثيرون أن قراءة لغة الجسد شيء يمكن تعلّمه ببساطة أو ببعض الجهد وبقواعد ثابتة تنطبق على كل البشر في كل مكان، كوضع اليدين متكاتفين أمام الجسم وتفسّر على أنها لحظة شعورية دفاعية، أو أن يميل الشخص للانحناء أو التقدم خطوات أكثر عند مصافحته شخصًا آخر، وهو دليل على الشعور بهيمنة الشخص الآخر، وكلها ادعاءات غير علمية، بل أنها بعيدة عن المنطق، وسنخوض في هذا المقال قليلاً في هذا الموضوع لأهمية الأبواب التي يفتحها لنا في العلوم الإنسانية، فحتى الخرافات، تحمل في رحلة البحث عما خلفها بعض الفائدة.
يقول ضابط الأف بي آي السابق جو نافارو، في لقاء مصور مع مجلة Wired الأمريكية، وهو متخصّص في تعقب واكتشاف الجواسيس، أن "أغلب الشائع من تفسيرات حركات الجسد غير صحيح، فمن يعتقد أننا نكتشف الكاذبين عبر مراقبة حركاتهم إذا لمسوا وجههم أو عند النظر للأسفل أو للأعلى، فهو واهم"؛ ويضيف نافارو: "في إحدى مراقباتي لأحد المشتبهين بهم، رأيته يحمل الزهور من عقبها بدل وسطها على امتداد ذراعه للأسفل، وهكذا يحمل الناس باقات الزهور في شرق أوروبا". ما يهمنا من هذه القصة فعلاً هو علاقة التعبيرات الجسدية، أو التعبيرات غير الكلامية Nonverbal communication، هو ربط نافارو لها بإقليم مكاني محدد، وهو ما سأعود له. في قصة أخرى حدثت معي ادعى أحد الأصدقاء أن أحد السياسيين خاضعٌ لدولة أخرى، بناءً على ملاحظته انحناء جسده وهو واقف، بينما نظيره يقف منتصبًا، وهذا الادعاء فيه من المبالغة في الاستنتاج الكثير، فقد يكون السياسي يعاني من مشاكل صحية، في الظهر مثلاً، أو قد يكون مجهدًا بهذا اليوم!
القصتان اللتان استشهدت بهما، يعطيان دلالة على شيء محدد، وهو أن التعبيرات الجسدية مثلها مثل اللغة المحكية، وسيلة من وسائل التواصل، وهما موضوع من مواضيع علم الأنثروبولوجيا، وهنا لن أدخلكم في تعقيدات التخصص التي قد لا تهم القراء الأعزاء، بل سأكتفي بأن أشير إلى أن تحليل التواصل غير الكلامي ولغة الجسد صعبٌ جدًا، ولا يمكن تعلمه بكورس قصير، أو بدورة تدريبية مكثفة، ولأسباب كثيرة سأتطرق لها بشيء من التوضيح. القصة الأولى تحديدًا تشبه مشهد تارانتينو الذي ذكرته، حيث يكتشف الضابط الألماني أن نظرائه ليسوا من الألمان، رغم أنهم يتقنون الألمانية وأقنعه المتحدث بأن اللهجة الغريبة التي يملكها من منطقة محددة في ألمانيا، لكنه لم يقتنع بحركة يده لكي يشير إلى الرقم ثلاثة وتأكد شكه من أنهم غرباء.
اتفقنا على أن التواصل الجسدي هو مثل التواصل الكلامي، ولتعلم الاثنين، لا يكفي أن تنظر للرموز وتحفظها، فعلى سبيل المثال أنّ المعنى اللغوي القاموسي لكلمة "حواسم" هو صورة جمع تكسير للجذر "حسم"، لكنها أصبحت في الثقافة العراقية تعني أعمال نهب وسلب جماعية، بعد ارتباطها بالأحداث التي رافقت سقوط النظام السابق الذي أطلق على معركته الأخيرة ضد تحالف الدول "أم الحواسم"، ومثل هذه الأدلة الكلامية الآلاف في كل لغة، بل أنّ متخصصي تعليم اللغات الآن أدركوا أن تعلّم اللغة يتطلب تعلم الثقافة والتاريخ أيضًا، إذ لا يكفي حفظ الكلمات ومعناها دون فهم المدلولات والإشارات الثقافية وغيرها.
هذا ينطبق على التعبيرات غير الكلامية، فالجلوس مكتوف اليدين هو دلالة على الهدوء والصلاح لدى الأطفال عندنا في الشرق الأوسط، أو على الأقل هكذا علمونا في المدارس، لا يمكن ترجمتها على أن صفّ الطلاب هذا غير منفتحين ودفاعيين! لا يمكن فهم إشارة ضم أطراف أصابع اليد معًا بشكل مخروطٍ وهزها دون معرفة أصلك الثقافي، فإذا كنت هنديًا فهي تعني أنك جائع وتريد أن تأكل، وإذا كنت إيطاليًا فهي تعني أنك محتج ولا تصدق ما تسمع، أما إذا كنت عراقيًا مثلي فهي تعني باللهجة العراقية: "بسيطة، اصطبرلي" إشارة للتوعد.
إشارة الإبهام للأعلى مع ضم الأصابع لراحة اليد تعني الموافقة والإيجاب في معظم دول العالم، لكني لا أنصحك باستخدامها في بنغلادش فهي تعني إهانة شديدة. وحتى نظرات العيون، فالنظر مباشرة في عين الآخرين عندنا في الشرق الأوسط قد تعني التحدي غير المهذب، وهي أحيانًا في بعض دول غرب أوروبا وفي الولايات المتحدة إشارة إلى عدم الاكتراث أو التجاهل. الانحناء في اليابان تحية، وفي دول أخرى خضوع، وفي مناطق أخرى لا تعني شيئًا سوى أنها حركة غريبة تدل على انتماءك الثقافي. هذه التفسيرات المختلفة لإشارات وتعبيرات جسدية واحدة تشبه لحد التطابق معانٍ مختلفة لنفس الكلمة، كلمة تعني شتيمة في لغة، وفي لغة أخرى تعني شيئًا مغايرًا تمامًا، لذلك من غير المنطقي أن تحاول تفسير التواصل الكلامي وغير الكلامي دون أن يكون أن تعرف مدلولها!
التفسيرات المختلفة لإشارات وتعبيرات جسدية واحدة تشبه لحد التطابق المعاني المختلفة لنفس الكلمة
بقي أن نشير إلى أن معرفة الخلفية الثقافية وحدها غير كافٍ لقراءة وتحليل لغة الجسد أيضًا، فالانفعالات الجسدية وتعبيرات الوجه وحركات الأيدي، محكومة ببيولوجيا الجسد أيضًا وبالحالة النفسية، وحتى بالخلفية الثقافية الشخصية على مستوى الأسرة الواحدة. هذه العوامل كلها تجعل من قراءة لغة الجسد مهمة صعبة جدًا، تحتاج لخبرات علمية ومهارات واسعة في الملاحظة والتحليل، إضافة لمعلومات غزيرة عن الشخص وبيئته وحياته، ورغم أن تصريح "خبير قراءة لغة الجسد" استفزني لخطأه البالغ، إلا أن إعادة التأمل في التعبيرات الجسدية الذي كنت دائمًا مهتمًا به، كان يستحق العناء فعلاً، وأرجو أن يكون راقك أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: