التاريخُ باختصار: هوَ ما نَقَلهُ الناسُ من أحداثٍ وسيرٍ في حقبةٍ ما، والناسُ غالبًا ليسوا أذكياء، ودائمًا ليسوا حياديِّين؛ لذلك فإنَّ الجزءَ الأكبرَ من وثائق التاريخ كُتِب بواسطةِ الأغبياءِ المنحازينَ لأفكارِهم أو أديانِهم أو جيوبِهم؛ أمّا ما كَتبهُ المؤرِّخونَ الحياديُّون (نسبيًا)، فهوَ نادرٌ ومشكوكٌ في صحَّته أيضًا؛ فإن استطعنا أن نثِقَ بحيادِ هؤلاءِ المؤرِّخين وإخلاصِهم للحقيقة، أنَّى لنا أن نَثِقَ بذكائِهم وذاكِرَتهم؟ وبعد ذلك كلِّه كيفَ نثقُ بتاريخٍ نُقلَ بهذه الطريقة؟
كيفَ لنا أن نصطادُ حقائِقَ التاريخِ في بحرٍ من الأساطيرِ والمبالغات؟
هنالك إجابتانِ لهذا السؤالِ الأخير: الأولى هيَ أن لا نثِقَ بالتاريخِ أصلًا ونتعاملَ معهُ كنتاجٍ أدبيٍّ مشابه للرواياتِ والمسرحيات، وهذه -في رأيي- إجابة الكُسالى وذريعةُ المتهرِّبين من المسؤوليَّةِ العلميَّة، مثلما كانت نسبيَّةُ الأخلاقِ ذريعةَ المتهرِّبينَ من المسؤوليَّةِ الأخلاقيّة؛ أما الإجابةُ الأخرى -إجابةُ العلماءِ والمؤرِّخين- فهي البحثُ والتنقيبُ طوالَ الطريقِ الطويلِ بين الوثائقِ التاريخيِّةِ والحقائقِ الفعليَّة، أي التعاملُ مع التاريخِ كعلمٍ له أساليبه التي يفرِّقُ بها بين الأساطيرِ والحقائق، بالضبطِ كما يفرِّق المنهجُ العلميُّ بينَ التحليل النفسيِّ والتنميةِ البشريِّة.
اقرأ/ي أيضًا: هل نقرأ التاريخ؟
ولكن كيفَ نصطادُ حقائِقَ التاريخِ في بحرٍ من الأساطيرِ والمبالغات؟ تتمُّ هذه العمليةُ وفقَ منهج نقد التاريخِ على مرحلتين: أولاهما التحقُّق من الوثيقة التاريخيَّة وطريقةِ نقلها أو ترجمتها وزمنِ كتابتها وعائديَّتها لمؤلِّفها وكلُّ ما يمكنُ أن يفيدنا في تأكيد حقيقتها كوثيقةٍ تاريخيَّة، وتسمى دراسةُ الوثائقِ هذه بعمليةِ النقدِ الظاهريِّ للتاريخ؛ أما النقدُ الباطني، وهو المرحلةُ الثانيةُ من عمليةِ الاصطياد، فيشملُ التحقُّقَ من مدى صِحَّة ما كُتِبَ في الوثيقة وحياديَّة كاتبها وذكائه، وهذه هي العمليةُ الأصعب والأهم.
وتتمُّ عن طريقِ دراسةِ أحداثِ الوثيقةِ التاريخيَّةِ ومدى انسجامها مع الحقائقِ المعروفة عن الفترة التي تتحدث عنها تلك الوثيقة، وغالبًا ما يستعين المؤرِّخون بعلومٍ أخرى كثيرةٍ في هذه العملية، فيستخدمونَ علمَ النفسِ مثلًا لدراسةِ مشاهيرِ التاريخِ ومدى توافُقِ الأفعالِ المنسوبةِ لهم معَ طبيعَتِهم النفسيَّة، ويستخدمونَ علمَ الاجتماع لفَهمِ المجتمعاتِ ورفضِ ما يتعارضُ مع طبيعتِها من نظريَّات، وعلمُ الاقتصاد لتحليلِ الأوضاعِ الماديَّةِ للناسِ والدولِ ومقدارِ موافقتِها لما كتبهُ المؤرِّخونَ عن تلك الفترة، وعلمُ المناخ والجغرافيا والجيولوجيا لدراسةِ إمكانيَّةِ حُصولِ الأحداثِ المذكورةِ في الظروفِ الطبيعيةِ حينها، بالإضافةِ الى علمِ الآثارِ الذي يدحض النظرياتَ بالأحجار، وعلومُ والكيمياء والأحياء واللغةُ والأخلاق وكلُّ ما يمكنُ أن يسمو بالتاريخِ الى مرتبةٍ مساويةٍ لأخوتِهِ منَ العُلوم.
خلافاتُ المؤرِّخينَ الكبارِ حولَ التاريخ خلافاتٌ تافهةٌ حول تفاصيلٍ صغيرةٍ إذا ما قيست بالأحداثِ المهمَّةِ التي أجمعوا عليها
اقرأ/ي أيضًا: مجلة الحوليات والتاريخ الجديد
يستخدمُ الباحثون الحشريُّون بالإضافةِ الى كلِّ هذا، الرسائلَ التي تبادَلها المشاهيرُ والمذكرات الشخصيَّة والكتب الرسميَّة وعقود البيعِ والزواجِ والشراء في عمليةِ تصفيةِ التاريخِ منَ الشوائب، فيظهرُ التاريخُ بعدَ كلِّ هذه العملياتِ كقصةٍ واقعيةٍ يمكننا أن نثق بها الى حدٍ كبير، بل ونستطيعُ أيضًا أن نفهمَ حاضِرنا ونتنبَّأ بمستقبلنا من خلالها، فالتاريخُ هو "الفلسفةُ الحقيقيةُ الوحيدة" كما يقولُ نابليون، أما خلافاتُ المؤرِّخينَ الكبارِ حولَ التاريخ، فهي خلافاتٌ تافهةٌ حول تفاصيل صغيرةٍ إذا ما قيست بالأحداثِ المهمَّةِ التي أجمعوا عليها، وحتى هذه الخلافاتُ تتقلصُ بالبحثِ والتنقيبِ والاكتشافاتِ الجديدة. لذلكَ فمِنَ الأحكمِ والأفضلِ لنا أن نثقَ بتاريخِ أجدادنا ثقةً كافيةً للاستفادةِ من عِبَره. إنَّ التاريخَ معلمٌ لا يُستَغنى عنه.
اقرأ/ي أيضًا: