انشغل هيدغر بهيغل مطوّلًا.
أمرٌ طبيعيّ في الاشتغال الفلسفيّ أن يكون في درس كل فيلسوف نحوٌ من الاستغراق في درس فيلسوف سابق. الاستغراق لا بمعنى التمثّل أو الكتابة بين سطوره، كما لا تعني مجابهته إنكاريًا، بل تعني وبشكل أساس مرافقته في طريقه، مصاحبته، تكوين صداقة معه، بالمعنى الذي مجّد فيه جيل دولوز الصداقة "الفلسفة: صداقة المفهوم" التي تعني علاقة الحبّ التي تفترض المنافسة وتسمح بالنقد.
في لحظات كثيرة من نقد هيدغر لهيغل نرى محاولات لجرّ الدرس الهيغلي إلى رحاب ممتلكات هيدغر نفسه وإلى اشتغاله الأثير حول الكينونة
هيدغر صاغ علاقاته مع سابقيه "ومنهم هيغل بالطبع" بطريقته الآسرة، كتب: "في ميدان الفكر الذي يعبّر عن ماهية الوجود لا يكون لتفنيد الآراء ودحضها من معنى. إن الجدل الذي يدور بين المفكرين هو خصام عشّاق، إنه خصام الشيء مع ذاته. وهو يمكنهم من أن يصبحوا ذات الشيء حيث يتّحد قدرهم بقدر الوجود".
اقرأ/ي أيضًا: حين يخلفُ الإنسانُ موعده مع ذاته
ويبدو لي أن عنوان "هيدغر ضد هيغل" لا يصحّ إلا بعد تجوّز وإغماض عن طبيعة هذه التلمذة الفلسفية الملتبسة التي تشتمل على الحبّ والعرفان بالجميل؛ اشتمالَها على استنطاق الفيلسوف في ما لم يقله، فهيدغر لا يريد نقض هيغل أو الكون "ضدّه" كما لا يروم تجديده، وهو الذي كتب "يختنق الفيلسوف ويخسر قوّته، في جوهره، ما إن نجدّده بطريقةٍ أو بأخرى".
علاقة كهذه، عميقة ومتناقضة الجذور والأهداف، تصبح ألصق بكلا الفيلسوفين، وتشكّل ميسمًا فارقًا لهما، إلى الحدّ الذي أصبحت فلسفة هيغل برمّتها، بتعبير اللبناني فرانك درويش غير ممكنة القراءة إلا بعد الدخول في حوار مع هيدغر.
في لحظات كثيرة من نقد هيدغر لهيغل نرى محاولات لجرّ الدرس الهيغلي إلى رحاب ممتلكات هيدغر نفسه وإلى اشتغاله الأثير حول الكينونة، ففي معرض حديثه عن كون فلسفة هيغل إتمامًا للميتافيزيقيا، وبالتالي ختامًا للفلسفة يقرّ أولاً بكون هيغل "بلغ بكلّ المحاولات والمواضيع الأساسية، الّتي ظهرت في سياق تاريخ الميتافيزيقا، إلى أبعد نهاياتها والجمع بينها وصياغتها في مجموعةٍ متوازنةٍ ومتماسكةٍ"، ويرى أن هذه الصياغة هي منطق الميتافيزيقيا، لكنه يستدرك بأنه ليس المنطق التقليدي "الذي هو فرع مخصوص من الفلسفة القديمة والذي يسميه شكل الفكر"، موضحًا بجملة حاسمة "هذا المنطق لا يتناول الفكر بل الكينونة". و "ما أن يبدأ المنطق حتّى نجد أنفسنا معه في صلب الميتافيزيقا".
ليست هذه القراءة المختلفة هي الوحيدة التي توجّه بها هيدغر لهيغل وإن كانت الأبرز، ففي الكتاب ـ تبعًا لفصوله ـ جردة مفاهيم بكل القضايا الخلافية بينهما "الميتافيزيقيا، التأريخ، الزمان، الذاتية والتطابق، الجدل ثم مسألة الذات".
فرشة اختلافات هي في المحصلة تبيان لفلسفة هيغل، لكنها في العمق ملامح لفلسفة هيدغر نفسه، من دون أن يفهم من الأمر أن تصحيحًا ما طرأ على فكر هيغل ليصبح هيدغريًا، بحيث يبدو ـ وهذا مجانب للصواب ـ بأن الهيدغرية هي مجرد هيغلية حديثة.
الأمر أبعد من يستوفى الحديث عنه في ثنائية "مع ـ ضدّ"، إنه في أقرب توصيف له تعميق لفكرةٍ وتفرّس بها وإدامة نظرٍ فيها بحيث لا تعود هي ذاتها، لكنْ مع احتفاظ الفكريتين، الجديدة والقديمة، بجذرهما المشترك. ففي بحث تاريخية الفكر، يسترسل هيدغر مع هيغل موافقًا إياه بأن "الفلسفة ليست صنيعة مفكرين، بل هي من فعل الوجود ذاته" وأن "الفكر مجهول الاسم، والفلسفة لا كاتب لها"، لأن تاريخ الوجود ليس سوى هذه اللغة التي كُتبت بها الفلسفة أو بتعبير هيدغر الذي لا يمكن الحديث عنه إلا بتكراره: "تاريخ الوجود يرقى إلى اللغة فيما يقوله المفكرون الأساسيون"، ومن هؤلاء المفكرين الأساسيين يختار نيتشه "إن أفكار مفكّر من مرتبة نيتشه هي صدى تاريخ الوجود في الكلام الذي فاه به ذلك الرجل التاريخي كما لو كان هذا التاريخ هو لغته". لا يمكن فهم كلّ هذه الصدوع التي يقيمها هيدغر في جدار التاريخ إلا بالعودة إلى مقولته الأساس "اللغة بيت الوجود".
لكنّ استرسال هيدغر مع هيغل ومصاحبته ومسايرته تنقطع حين يصل الحديث إلى مقتنيات هيدغر النفيسة الخاصة به، حينها يحلّق منفردًا في ما يستطيعه هو وحده، فبعد مصادقته على أن تاريخ الفلسفة تذكّر "نستعيد هنا مقولة أفلاطون: المعرفة تذّكرٌ"، يقول إنها كذلك لا لشيء إلا لأن الميتافيزيقيا إغفال للوجود ونسيان له.
هذا النسيان ليس حدثًا طارئًا عابرًا، بل "إن نسيان الوجود جزء من ماهية الوجود" "النسيان من صميم الوجود" "تاريخ الوجود بدأ بنسيان الوجود" وأخيرًا "تاريخ الفكر لم يبدأ بالتفكير بل بترك التفكير طيّ النسيان".
استبعاد الطاقة الإنكارية شرط أساس لكل قراءة تريد أن تكون منتجة
الكتاب يصف حوارًا بين ركنين فلسفيين أساسيين في تاريخ الإنسانية، نكتشف معه أن الاختلاف ختمٌ منقوش في أصل كل عمل فلسفيّ مهما بدا تطابقه واسترساله مع ما سبقه، ونكتشف أيضًا أنّ استبعاد الطاقة الإنكارية شرط أساس لكل قراءة تريد أن تكون منتجة، وأنّ "الصداقة" ـ بالمعنى الدولوزي مرة أخرى ـ أنفع علاقة ممكنة لمباشرة التفكّر بآخر مختلف، أجدى من الاستغراق في الحبّ المانع من تلمّس الاختلاف، وأنبل من الكره المفضي إلى الإنكار. إذ كل كتابة إنكارية ـ يقول دولوز ـ أقلّ من أن تستحق اسم كتابة.
بقيت لدي ملاحظتان رئيسة وشكلية:
- الأولى: مقدمة المؤلف التي حاول فيها ربط ما في الكتاب براهن الثقافة العربية وحديثه عن الهوية والآخر، جاءتْ مقحمة وغير ذات صلة بالكتاب، فما يشتمل عليه الكتاب من مفاهيم، لا يشغلنا كثيرًا. نحن العرب بعيدون عن ذلك كله. اعتقادي أن هذه مفاهيم تأسيسية لثقافة وحضارة أخرى مختلفة لا يمكن استنباتها في الأرض بمجرد فهمها وتكرارها.
- الثانية وهي الشكلية: لا أعرف لم جاء في العنوان "هايدغر ضد هيجل"؟ لم ورد هيدغر بالغين وهيجل بالجيم، وكلا الحرفين صوت واحد؟ أظنّ أن ذلك نتاج ترجمة هيغل من قبل المصريين التي رسختْ هذا الاسم بهذا الشكل الكتابي.
...................
هذه المقالة نتيجة قراءة كتاب: هايدغر ضدّ هيجل .. التراث والاختلاف ـ عبد السلام بنعبد العالي. دار التنوير ـ بيروت ـ الطبعة الثانية ـ 2006.
اقرأ/ي أيضًا: