لا يملك نظام المحاصصة في العراق موقفًا واضحًا يعبر عنه كهوية سياسية ليفهما العالم، ذلك أن آلية التحاصص في إدارة البلد طبيعي أن تفرز آراءً متشظية تعبر عن رأي طوائفها في المواقف المصيرية، ولا توجود هوية نظام واضحة يتعامل معها المحفل الدولي، ومن الصعوبة صياغة خطاب للدولة يمثل سياقًا عامًا للتفاهمات السياسية في ظل قوة نفوذ سلطة الطائفة والحزب والسلاح. إن محاولات الإصلاح اذا أرادت أن تثبت جديتها لا بد لها أن تبدأ من جذر المشكلة، للبدء من جديد.
حسم ملف الوجود الأمريكي يعني موت التبرير لانفلات السلاح، وتراجع النفوذ والسيطرة وتقويض السلطة المستحوذة على القرار
قد يبدو أن حكومة الكاظمي بطيئة أو أنها تحاول التهرب من مواجهة المشكلة، لما لها من تداعيات قد تزيد الوضع تعقيدًا أكثر مما تسهم في حله. صحيح أن المجاملة مطلوبة أحيانًا في مسارات العمل السياسي، لكنها لا تزيح المشكلة بل تدفع بها للتأجيل فقط، وهذا ما يتضح حتى في الموقف التشريعي بشأن قانون إخراج القوات الأمريكية، حيث كان بصبغة طائفية عقائدية بحتة، ولا تحمل رؤية سياسية ناضجة يمكن الأخذ بها كوجهة نظر تعبر عن موقف دولة. كان الفاعل الخارجي أقوى، لذلك لا توجد كوابح محلية لمركبة الحكومة التي على الأغلب، تجدها تفتقر للقيادة السليمة.
اقرأ/ي أيضًا: فرنسا والشام الجديد.. استراتيجية الخارج والداخل
هذه المقدمة هي للحديث عن شكل الصراع بين واشنطن وطهران الذي بدأ يأخذ بعدًا آخر في العراق، مغادرًا مرحلة التخادم بين ثنائية ـ المحتل/المقاومة إلى مواجهة الواقع بصورته الحقيقية، بلا تلوين لها بشعارات بدت وكأنها أراجيز قد سحقها تقادم الزمن وتطوره، الصورة التي كان ينبغي أن يراها عامة الناس كما هي، إذ لا يبدو غريبًا أن تبدي القوى السياسية الحليفة لإيران امتعاضها من الانسحاب الجزئي للقوات الأمريكية، وتخفيض عديد جنودها إلى أدنى مستوى لها منذ غزوها العراق من باب تحقيق منجز سياسي يُحسب لحكومة الكاظمي أو بمعنى أدق، إنجاز للخصم وليس للدولة العراقية بالمفهوم العام، لأن وجودها كان شماعة لتبرير فشل صناعة الدولة. إن حسم هذا الملف يعني موت التبرير لانفلات السلاح، وتراجع النفوذ والسيطرة وتقويض السلطة المستحوذة على القرار، على الرغم من المواقف المتباينة بين طرفي الصراع، الكاظمي وسلطة السلاح، لكن ذلك لا يبدد قرار ترامب بتخفيض عدد جنوده في العراق.
إن الشكوك بنية القوى الماسكة بالسلطة للتعاطي بمرونة مع القرار بمقابل تخفيف مصير السلاح المنفلت الذي هو بالواقع سلاح الفصائل التي تملك تمثيلًا سياسيًا يشكل الأغلبية، الأمر لا يتعلق بقرار البرلمان وتطبيق ما تم التصويت عليه فعليًا، بقدر ما هو شكليات لا تغير من أرقام المعادلة التي يتغذى عليها النظام. لا تريد هذه القوى الاعتراف بالمعطيات على الأرض والتكيف معها، لأن ذلك يعني موتها تدريجيًا، لذلك هي توسع من دائرة ضرباتها لتكسر طاولة الحل الذي يفرضه واقع اليوم بحسب مستجداته بدءًا بالانتخابات الأمريكية، وعروض إدارة ترامب لحملته الانتخابية، ومنها تخفيض عدد القوات في العراق وأفغانستان، وليس انتهاءً بوباء كورونا ومتغيراته الاقتصادية المنهكة.
قرارات مصيرية كهذه لا تتعامل معها الأحزاب بجدية لأنها تفتقر أساسًا للمعرفة السياسية بما هو جيد أو غير جيد، صالح أو غير صالح، وما هي مصلحة العراق، وكيف يقرأ المشهد عالميًا لمعرفة المرتكزات الأساسية لتقدير الموقف.. هذه حسابات كبيرة لا يمكن اختزالها بجلسة برلمان وشعار عقائدي، ولا حتى بصاروخ كاتيوشا من الممكن أن يلامس جدار السفارة الأمريكية. إن خلط المغالطات قد ينجح بصناعة جمهور مؤمن بالفكرة والشعار، لكنه حتمًا سيفشل في خلق البدائل السياسية والاقتصادية التي يتعامل بها المجتمع الدولي كحكومات وشعوب.
إن استفحال الفشل لا يعني غياب البديل بالرغم من المعوقات الكثيرة التي تمنعه من أخذ دوره، غير أنه من الضروري أن يدخل الميدان للممارسة كلاعب سياسي، وهذا ما يقع على عاتق الناقد أو المتظاهر الذي يشخص، وعليه أن يغادر منطقة النقد والتشخيص والتذمر إلى الممارسة للتغيير على حد تعبير ماركس (على الفيلسوف أن يكتفي من تفسير العالم وينشغل بتغييره).
اقرأ/ي أيضًا: