يذكرنا ما ورد في تقرير نشرته "روسيا اليوم" بعنوان: "سيف الإسلام القذافي يقرأ طالع الليبيين" بما تردد كثيرًا أثناء وقبل وبعد الربيع العربي من أنه مؤامرة غربية الهدف منها تقسيم البلاد "المقسّمة أصلًا"، ونشر الخراب ونهب الثروات واستباحة الدماء.
ظل الزعيم القائد الخرافي معمر القذافي كالمغذية الضخمة، طوال فترة حكمه، لكل أشكال الصراع الاجتماعي في ليبيا
جاء في التقرير خلال مقارباته لخطاب سيف الإسلام القذافي، الشهير قبيل سقوط ديكتاتورية والده في ثورة ليبيا 2011، تأكيد نجل القذافي أن "البترول" هو الذي وحّد ليبيا! وتحذيره من أن الصراع الحتمي حول النفط سيؤدي إلى تقسيم البلاد وإلى حرب أهلية، وأن مصيره سينتهي إلى الحرق. وقال التقرير: إن القذافي الابن "بشّر" مواطنيه برجوعهم إلى أيام الفقر والضنك قبل اكتشاف النفط، وبانهيار التعليم والصحة، وبتحول البلاد إلى مجموعة من الإمارات والدويلات.. وشرع يلوّح بإصبعه محذرًا "أولادكم غدًا لن يذهبوا إلى المدارس. لن يكون هناك جامعات ولا دقيق يؤكل ولا أموال في البنوك، وستضيع مدخراتنا، ستتم سرقتها ونهبها.. وسنهاجر من ليبيا!".
إنها الخرائب ذاتها التي يبشر بها المستبد وأعوانه وعبيده في كل الأقطار العربية وغير العربية، وربما على مر التاريخ، بمجرد أن يشعر بتهديد لعرشه الديكتاتوري الذي لا يعرف في إدارته للحكم سوى الحديد والنار والزنازين ومحاكم التفتيش الدينية والسياسية أيضًا! والتي يتذرع بها الديكتاتور عادة لقمع الخصوم. إنهم يتحدثون عن هذه المآلات الكارثية للخروج على كياناتهم المتهالكة الشمولية القروسطية لأنهم يعلمون جيدًا ما فعلته أيديهم بالشعوب التي رزحت تحت حكمهم الفريد في استبداده ووقاحته، ردحًا من الزمن. فالقذافي سيف الإسلام مثلًا، لم يقرأ طالع الليبيين في خطابه الشهير أيام الثورة والمذكورة بعض مقتطفاته آنفًا، بل كان يعترف بمدى فداحة الجرم الذي ارتكبته ديكتاتورية القذافي بالمجتمع الليبي والوطن الليبي والمستقبل في ليبيا وأجيال وثروات ومدنية ليبيا.
لقد ظل الزعيم القائد الخرافي معمر القذافي كالمغذية الضخمة طوال فترة حكمه لكل أشكال الصراع الاجتماعي في ليبيا، من طبقيات وقبائليات وتطرف ديني ومركزية وبداوة، تقضي على كل مفاهيم التمدن والتحضر في هذا العصر المتقدم من تاريخ البشر.
القذافي سيف الإسلام يتحدث عن وطن سيسقط بسقوط ديكتاتورية أبيه، لأنه يعلم جيدًا بأن أباه قد جعل من نفسه هو، الوطن في ليبيا، بل جعل من نفسه ذاته ما هو أقرب إلى الإله أو الفرعون في أقل تقدير. وسيف الإسلام كما ذكرت، وأؤكد عليه مرة أخرى، ما هو إلا مثال واحد على حالة شاملة ومتكررة في أقطار عربية شتى. فمثلًا سوريا، قامت الثورة فخرج الزعيم المبجل يبشر بانفجار غير مسبوق لظاهرة الإرهاب، لأنه يعلم جيدًا بعدة أمور. الأول: أنه قد أفرط في قمع اتجاه عريض جدًا في سوريا يتجسد في شريحة المسلمين السنة، الذين بدورهم استقبلوا الثورة في 2011 بجاهزية كبيرة لفرض الحضور المسلح على الأراضي التي يعيشون فيها تحت قبضة نظام إجرامي يرى أن الأصل فيهم الخيانة والإرهاب. والثاني لأنه كان يعلم جيدًا أنه لن يتورع عن استخدام السلاح بإفراط للقضاء على الثورة. الثالث: لأنه كان يعلم جيدًا أن ثمة تجهيز كامل لاجتياح رقعة واسعة من النواحي المهمشة والمتروكة في سوريا، على مدى سنين طويلة تشمل عهدي بشار، وحكم أبيه من قبله!
كذلك العراق حين نزل أرضه الغزاة، وكانوا يتجولون تحت سيوف بغداد، كان هناك من يبشر بحكومة طائفية خلفًا لصدام والمحتل الأمريكي. مع أن الطبيعي، وبحسب كافة المعطيات التي كان يعيشها العراق وما زال، هو أنه لا يمكن أن يكون ثمة غير الطائفية في الأفق السياسي ما بعد صدام والمحتل الأمريكي. وأثناء الهيمنة الإيرانية والانفجار الإرهابي الداعشي السني في المنطقة نفسها. الديكتاتور يريد أن يبث الرعب في النفوس من فكرة إلغائه، ويحرص حرصًا شديدًا على تحويل تلك الأفكار المرعبة إلى فزاعات حقيقية في حياة الشعوب، فيهدد بسوءاته دون أن يستحي.
يريد الديكتاتور العربي أن يبث الرعب في النفوس من فكرة إلغائه
ففي مصر، ظل ما يعرف بحزب الفلول ما بعد نجاح ثورة كانون الثاني/يناير 2011، يحذرون من فشل الإخوان في إدارة وحكم البلاد وتحقيق وعود الانتخابات الرئاسية قبل الفوز، ووعود الحزب نفسه التي طالما قدم نفسه كآلية قادرة على جعل أحلام الشعوب بالعدالة والتنمية حقيقة يعيشها كل مواطن في مدينة وقرية. ذلك لأن الفلول، وأصحاب الهوى العسكري في مصر، يعلمون جيدًا بضعف الإخوان كحزب حاكم وكرئيس، في مواجهة العسكر والجيش على وجه الخصوص. ولأن الجيش في مصر جيش ذو نزعة سياسية لا تجعله يقبل بالتنازل عن السلطة، فلقد كرّس حضوره في كل المجالات على أرض مصر، من التجارة إلى الصناعة والصحافة والإعلام والرياضة والسياحة والفن! وحتى السياسة.
أولئك الممتعضون من فكرة التحرر أصلًا، كانوا على يقين من أن الحزب الحاكم لم يكن سوى المعارضة الوحيدة الحقيقية في مصر للحكم الذي تم خلع واجهته "مبارك" في الثورة المجيدة. وأن تلك المعارضة قد فقدت لياقتها السياسة في السجون. وأنها لم تكن تحمل وجهة تنموية واضحة في ظل الخراب السياسي خلف استبداد طال أمده.
ولذلك فإن المستبد قد ينجح في قراءة الطالع من بعد خلعه وسقوطه وتلاشيه، ذلك أنه الأعرف من الجميع بما ارتكبته ديكتاتوريته من فظائع عميقة بحق الشعب. فتجد بعض الإعلاميين المطلبين للطغاة يتبجحون بمضغ أفكار من قبيل: أنظروا إلى مآلات الخريف العربي.. إن الشعب غير جاهز للديمقراطية.. العرب لا يستحقون الحرية.. لا يحكم العرب إلا مستبد.. وغيرها من الأفكار الوقحة، ثم يسكتون، يسكتون كالبوم. ولا ينطقون حرفًا عن أسباب ذلك؟ فلماذا الشعب غير جاهز للديمقراطية؟ ولماذا سيتقاتل الناس بسقوط المستبد؟ وينفجر الإرهاب؟ والطائفية؟ وتغلق المدارس والجامعات وتنهب الثروات؟ لماذا؟ أهو بسبب الاستبداد واستمراره على حساب التفريق والتطرف والتشتيت والكبت والقهر وغرس ثارات العنف والقتل والإجرام؟ أم هو بسبب الربيع العربي؟
من وجهة نظري، أعتقد أن الربيع العربي قد جاء لإنقاذنا من كل تلك الويلات، لكنه جاء متأخرًا جدًا؟ وأن يأتي الفرج متأخرًا جدًا هو بلا شك، خيرٌ من أن لا يجيء.
اقرأ/ي أيضًا: