في البدء، وجدت الدولة لتضبط المجتمعات. هكذا يقول التاريخ ووقائع التطور البشري، كما نظّر لذلك هوبز في حرب الكل ضد الكل. ومن غير العراق يعرف في تاريخه كيف تُسن القوانين وتطبق على التقسيمات الاجتماعية لقيادة الشعب وإحقاق العدل.
لم تشهد أكثر المجتمعات تطورًا إدارة نفسها اقتصاديًا واجتماعيًا دون سلطة مباشرة أو معنوية إلا في مراحل متأخرة من تطور الدولة، بحيث تسمح الأخيرة بنشوء فعاليات اجتماعية دون أن تهدد الدولة وحدودها وأمنها القومي. وفي سياق تطور المجتمع المدني بدأ الفرد مواطنًا مقابل الدولة، لتجري صيرورة طويلة قبل أن تنشأ منظمات المجتمع المدني بصيغتها الأحدث (راجع كتاب عزمي بشارة: المجتمع المدني دراسة نقدية).
الدولة هي من صنعت الحضارة في العالم وليست المجتمعات بفعاليات ذاتية؛ لكننا لا نريد تحويل النقاش إلى نقاش فلسفي يبحث سؤال الدجاجة والبيضة: هل الدولة من المجتمع أم المجتمع من الدولة؟
يُمكن أن نطيل في هذه المقدمة لإثبات مقولة: الدولة هي من صنعت الحضارة في العالم وليست المجتمعات بفعاليات ذاتية؛ لكننا لا نريد تحويل النقاش إلى نقاش فلسفي يبحث سؤال الدجاجة والبيضة: هل الدولة من المجتمع أم المجتمع من الدولة؟
لدينا ما نبحثه في الشأن العراقي دون أن نشتت أفكارنا هنا وهناك. لقد تحسست الطبقة السياسية العراقية نضوجًا سياسيًا في المجتمع من خلال تظاهراته ونقده وموقفه من العملية السياسية والانتخابات. لقد بات الخطاب الطائفي لا يحظى بتلك الشعبية التي كان عليها في السابق. لقد بات خطاب الفقراء والتحذير من تهديدات البعث لا يحظى إلا بسخرية شريحة كبيرة من الجيل الجديد: جيل مواقع التواصل الاجتماعي.
اقرأ/ي أيضًا: المجتمع هو السبب.. النقد لإنقاذ فشل السلطة!
إن تحسس الطبقة السياسية هذا دفعها للتكشير عن بعض أنيابها، تارة عبر نقد المجتمع العراقي وسلبياته وتحميله مسؤولية الأوضاع، وتارة عبر التقرب من وسائل الإعلام والإعلاميين المهمين ومنحهم امتيازات معينة بهدف تقليل الفجوة بين المجتمع والسلطة، أو بعبارة أدق: التهدئة بين الطرفين. وبعض السياسيين بدأوا يلومون وسائل الإعلام التي تنتقد الواقع. يلومون الإعلام لأنه لا يُظهر الإيجابية!.. فضلًا عن دعوات ضبط مواقع التواصل الاجتماعي ومشروع قانون الجرائم المعلوماتية سيء الصيت.
إن الخطوات أعلاه تُشير ـ بحكم التجربة ـ إلى أن الخطاب الذي يجلد المجتمع سيشهد تصاعدًا بالتوازي مع فشل النظام في تقديم نموذجًا سياسيًا واقتصاديًا محترمًا للشعب.
أثارت تصريحات نائبة عن سائرون، في لبنان، الكثير من الجدل، وذهب بعض المؤيدين إلى الإشادة بالسيدة النائبة لكونها "وضعت يدها على الجرح". والغريب بهؤلاء أنهم وصلوا إلى مرحلة من الإحساس بالعجز تخيلوا بسببها أن المجتمع العراقي بحاجة إلى تشخيص مشاكله من قبل نائبة في البرلمان العراقي الموقر.
يُمكن للباحث أن يستقل أي سيارة أجرة ويسأل سائقها عن المشكلة في العراق، سترد النسبة الأكبر: الخلل بينا (فينا). يحدث ذلك في سيارات الأجرة الأكبر "الكيّا"، التي طالما يدور فيها نقاشٌ بين الركّاب يتحول بعد مشاهدة أي ظاهرة سلبية في الشارع إلى حفلة من "جلد الذات" يُحييها النسبة الأعظم من الركاب الأعزاء. وإن تحدّث الباحث عن فساد السياسيين فستُجيبهم النسبة الأكبر: نحن من انتخبناهم.
إن الناس من فرطِ عجزهم وقلة حيلتهم أصبحوا يجلدون ذاتهم بعد أن بُحت أصواتهم في نقد السياسيين وفسادهم
هذا اختبارٌ لمن يُريد أن يجرّب. أقول إن رصد هذه الظاهرة تدل على أمرين: الأول إن الناس من فرطِ عجزهم وقلة حيلتهم أصبحوا يجلدون ذاتهم بعد أن بُحت أصواتهم في نقد السياسيين وفسادهم. أما الأمر الثاني، وهو المهم في سياق الحديث، هو تحميل الذات أخطاءً أكبر مما تستحق، ما يعني أن هذا المجتمع ليس بحاجة إلى سياسي أو رجل دين يُشخّص أخطائه الاجتماعية.
اقرأ/ي أيضًا: قانون جرائم المعلوماتية.. لماذا يخاف السياسيون مواقع التواصل الاجتماعي؟
نقد الذات يكون صحيًا إن وضع في سياق التطور، لكن النقد غير الجلد، ومع ذلك فهذا شأن اجتماعي يُعبر عنه الفرد بطريقته الخاصة وفق ظروفه النفسية وإمكانياته العقلية واللغوية التي لا تخضع لمزاج المثقفين. مع هذا، لا يحق لطبقة سياسية دمرت البلاد وأطاحت بثرواته وتاريخه وشبابه وبناه التحتية أن تتحدث عن هذا المجتمع. لا يحق للسياسيين توجيه اللوم للمجتمعات؛ وإن كانوا مضطرين للوم المجتمع فيجب أن يلوموه لأنه اختارهم وأوصلهم للمناصب، مع أن الاختيار هذا له تفسيراته وتتحمله الطبقة السياسية ذاتها.
أقول إن النقد الذاتي حالة صحية، فهي تدفع باتجاه الاعتراف بالأخطاء ومن ثم التصحيح، وتكسر أي حالة للجمود السياسي في المجتمعات المنكوبة، لكن هذه الحالة الصحية قد تُصاب بمرضين: المرض الأول هو تحولها إلى حالة من جلد الذات المتواصل الذي قد تستخدمه الطبقة السياسية لتكريس حالة لوم المجتمع لنفسه وتُبعد بذلك نفسها عن النقد والمسؤولية. والمرض الثاني هو استمرار النقد دون معالجة لا شعبية ولا حكومية ما يُزيد حالة الإحباط التي تضر بالعديد من القيم والأعراف ربما "الوطنية" منها.
إحدى خطوات مجلس النواب التي تُفصح عن العقلية التي تروم إسكات الناس أو انتقادهم، هي حظر لعبة "ببجي" لأنها ـ بحسب قولهم ـ تُحرّض على العنف. إن القتال في بوشنكي "هكذا يُسميها اللاعبون" سيدفعهم للقتل في الواقع، لكن استخدام عشائر البصرة للسلاح الثقيل في معاركها القبلية غير مُدرجٍ على قائمة المحرّضات على العنف. لماذا؟ لأن هذه العشائر رصيد انتخابي لا تريد الأحزاب خسارته، فالحل أن توجه الخطر للألعاب الإلكترونية؛ أما شباب "ببجي" فيقضون أوقاتهم بالسخرية من السياسيين وانتقادهم وفضح مواقفهم وربما النسبة الأعلى منهم لم تُشارك في الانتخابات. لذلك صوّت مجلس النواب "السويدي" على منع هذه اللعبة على وقع أصوات قنابر الهاون التي تستخدمها العشائر.
إن مهمة رجل الدولة أن يبني الدولة ويُقدم نموذجَا للمجتمع في تعامله السياسي وسلوكه الشخصي. تسقط شخصيات كبيرة في الغرب لأنها "كذبت" أو لم تصدق بوعد. أما في العراق والوطن العربي، فلدينا سياسيين نهبوا الأرض ومن عليها، وأسالوا الدماء، وباعوا الثروات والتاريخ، ثم راحوا يتقيئون على المجتمع وسلوكياته.
في العراق والوطن العربي، لدينا سياسيين نهبوا الأرض ومن عليها، وأسالوا الدماء، وباعوا الثروات والتاريخ، ثم راحوا يتقيئون على المجتمع وسلوكياته!
أيها السياسي الناقد: أن تصوم عن خطاياك وفسادك خيرٌ من أن تطالب المجتمع بإصلاح وإدارة نفسه وهو لم يحظً بدولة محترمة تصونه حتى الآن. كذلك عليك أن تنتبه أيها السياسي الفاشل: نقد المجتمع ليس من حقك.
اقرأ/ي أيضًا:
حظر "بوبجي" لتحريضها على العنف.. ماذا عن الميليشيات والأحزاب؟!