يعد قانون الانتخابات من بين أهم القوانين والتشريعات التي تهتم بها الدول الديمقراطية البرلمانية، والذي يقوم بتنظيم الانتخابات، وكيفية تنظيم المرشحين، والقوائم الانتخابية المتنافسة، وآلية توزيع الدوائر، وهل هي متعددة أم دائرة واحدة؟ فضلًا عن كيفية احتساب الأصوات والفائزين في الانتخابات.. الخ، إذًا هو عملية تنظيمية تهدف عبرها الدول الديمقراطية إلى ضمان سير العملية الانتخابية على النحو الأمثل، وتؤدي إلى ضمان أكبر قدر من العدالة بين المتنافسين.
الإطار التنسيقي لا ينسى الخسارة التي تلقتها قواه السياسية والسياسية المسلحة في انتخابات عام 2021
في العراق تم بعد 2003 اعتماد القانون الانتخابي على أساس "سانت ليغو"، والذي بموجبه تكون المحافظة دائرة انتخابية واحدة، وليست في دوائر متعددة، ومن بين أهم نقاط قوته أنه لا يؤدي إلى تشتت أصوات أنصار الكتل والأحزاب المتنافسة، فالأصوات التي تحصل عليها قائمة انتخابية معينة أو حزب ما، تظلّ في جعبته ولا تتشتت، وبالتالي تسهل من عملية حصوله على مقعد في البرلمان، أو في مجالس المحافظات، أما سلبياته فأهمها: سيطرة رئيس الحزب أو الكتلة على أعضاء كتلته وحزبه، وعدم وجود حرية لدى المرشحين الفائزين في تقرير مصيرهم واختياراتهم السياسية، والأهم من ذلك، انعدام فرص المرشحين المستقلين في الفوز، فضلًا عن أنّ الناخبين الذين لا يفوز المرشح الذي انتخبوه، فإنّ أصواتهم سوف تذهب إلى مرشح آخر من القائمة ذاتها التي انتخبوها، إلا أنهم ربما لا يرغبون به أو بفوزه، بمعنى وصول من هو قد لا يمثل مصالحهم في البرلمان ومجالس المحافظات.
وكان من أهم أهداف انتفاضة تشرين في عام 2019، تغيير قانون الانتخابات الذي يعتمد صيغة "سانت ليغو"، بالقانون الذي يقوم على أساس الدوائر المتعددة للمحافظة الواحدة، وبسبب الضغط الشعبي حينها، اضطر مجلس النواب العراقي للموافقة على تغيير قانون الانتخابات، وليتمّ اعتماد صيغة الدوائر المتعددة، والذي على إثره قامت الانتخابات البرلمانية المبكرة في العام 2021، وكانت النتائج صادمة للقوى التقليدية المهيمنة، إذ مُنيت بخسارة كبيرة، لصالح القوى التي أحسنت استثمار القانون الجديد وفي مقدمتها التيار الصدري، فضلًا عن أنها أدت إلى صعود فاعل جديد في الحياة السياسية العراقية ألا وهو النواب المستقلين، الذين خدمهم قانون الدوائر المتعددة.
لم تقبل القوى التقليدية وقوى السلاح بهذا الوضع الجديد، الذي هدّد مكتسباتها ومصالحها، وقد يزيلها من الخارطة السياسية العراقية - هكذا كانت تعتقد - ولاسيما أنه أدى إلى فوز خصم قوي مثل التيار الصدري، الذي يمتلك قاعدة جماهيرية متماسكة، وسلاح يحمي وجوده السياسي والشعبي، فضلًا عن زعامة مقتدى الصدر الذي تؤمن به هذه القاعدة الإيمان المطلق. حدث على إثر هذه النتائج التي جاء بها قانون الدوائر المتعددة، الصراع السياسي المحموم بين أقطاب البيت الشيعي، ممثلًا بالتيار الصدري من جهة، الذي سعى إلى تشكيل حكومة الأغلبية الوطنية -كما أطلق عليها- وذلك عبر التحالف مع جزء من البيتين الكردي والسني. لم تسر الأمور بالطريقة التي خطط لها الصدر وحلفائه، فخصومه أيضًا يمتلكون أوراقًا قوية جعلتهم خصمًا قويًا أمامه.
زاد من صعوبة المهمة أمام التيار، قانون الثلث المعطل الذي جاءت به المحكمة الاتحادية، والذي ينص على أن "الجلسة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية لن تتحقق إلا بحضور ثلثي أعضاء البرلمان"، الورقة التي استثمرها الإطار لضرب مشروع الصدر، إلى أن وصل به الحال لإعلان الانسحاب من العملية السياسية، وأمر نوابه بالاستقالة من البرلمان، فكانت المفاجأة أو الجائزة المجانية التي لم يكن يفكر بها أحسن المتفائلين ولا حتى خصومه، وبسبب هذا القرار تحول الإطار من طرف كونه خاسرًا في الانتخابات، إلى رابح هيمن على الوضع السياسي الجديد بطرفة عين، وليتحول التيار إلى المعارضة في الشارع، ولتقوم الجماهير الصدرية بالدخول إلى البرلمان وإعلان الاعتصام فيه، حتى تحقيق ما يريده الصدر، وهو استقالة البرلمان الجديد، وإجراء انتخابات جديدة، إلا أن الإطار ومعه الكرد والسنة وحتى المستقلين رفضوا هذا الأمر، واستمر الحال على ما هو عليه، ليصل إلى الورقة الأخيرة وهي ورقة السلاح، وكلنا يعلم ما حصل حينما لجأ أنصار الصدر إليه لاقتحام الخضراء من أجل السيطرة عليها، إلا أن مساعيهم فشلت، ليخرج الصدر غاضبًا بعد أربعة وعشرين ساعة من المواجهات، موبخًا أنصاره ويأمرهم بـ"الانسحاب فورًا وإلا يعلن البراءة منهم"، بل وأعلن إنهاء الاعتصام السلمي في البرلمان، وليترك الجمل بما حمل، معلنًا أو مسلمًا بهزيمته أمام الإطار بعد صراع محتدم دام سنة كاملة، وخياراته غير المحسوبة هي من أدت به إلى هذا المصير.
كل الحديث والإسهاب أعلاه، يعود سببه بالدرجة الأولى إلى قانون الانتخابات، فهنالك طرف مستفيد وآخر متضرر، والإطار يعتقد أن قانون الدوائر المتعددة لا يخدم مصالحه، ولا سيما أن جمهوره شبه ثابت، بالتالي الدائرة الواحدة تلبي أهدافه بشكل أفضل، وتضمن عدم ضياع أصوات أنصاره، وفي الوقت ذاته تضمن عدم دخول أطراف سياسية لا تتفق مع قسيمة النظام السياسي، ولا اللعبة التي يقوم عليها، بالتالي تظل الهيمنة للأطراف التقليدية، ويظل هامش التغيير ضئيلًا.
إن النقاش بشأن قانون الانتخابات لم ينتهِ، والإطار لا ينسى الخسارة التي تلقتها قواه السياسية والسياسية المسلحة في انتخابات عام 2021، لهذا ظلت مساعيهم قائمة لأجل العودة إلى القانون الانتخابي القديم الذي يعتمد صيغة سانت ليغو، وهذه المرة لم يكن صراعهم داخل قبة البرلمان مع التيار الصدري، بل مع المستقلين، الطرف الأكثر إفادة من قانون الدوائر المتعددة، والأكثر تضررًا من سانت ليغو، على أساس أنه سوف يؤدي إلى تراجع حظوظهم في الانتخابات المقبلة، إلا لو تمكنوا من الاندماج ضمن قائمة انتخابية واحدة، وهذا الخيار قد يصعب تحقيقه؛ لاختلاف الرؤى ووجهات النظر بين النواب المستقلين. وعليه، تمت الموافقة على العودة إلى "سانت ليغو" في جلسة البرلمان التي عقدت في السابع والعشرين من آذار/مارس 2022، بعد الدعم الكبير من نواب الإطار، ومرر على الرغم من الاعتراض الكبير الذي أبداه العديد من النواب المستقلين، إلا أن إرادتهم وحدها لم تكفِ.
الملاحظ أيضًا أن التيار الصدر آثر الصمت حتى اللحظة، ولم يبدِ اعتراضه على العودة إلى "سانت ليغو"، وإلغاء قانون الدوائر المتعددة، الذي أدى إلى تحقيقه المركز الأول في الانتخابات البرلمانية الماضية، وعلى ما يبدو أنه أدرك أن اللعبة السياسية في العراق أكبر من أن يحددها قانون الانتخابات، ولا حتى الفائز فيها، بل هي تقوم على أسس الأطراف المهيمنة على النظام في الوقت الحاضر، وهي قوى السلاح بالدرجة الأولى، ومن ثم فإن المشكلة الأكبر بحسب رأيي، ليست في شكل وطبيعة قانون الانتخابات؛ ففي الأخير هو مجرد عملية تنظيمية وإدارية للانتخابات أيًا كانت طبيعته، وإنما مشكلتنا في القوى المسلحة التي ابتلعت الدولة، والتي جعلت من الانتخابات مجرد غطاء لها، تعترف بها حين تحقق مآربها، وتنقلب عليها عندما يحدث العكس، بالتالي لا قيمة للحديث عن قانون الانتخابات والانشغال بهذا الصراع الشكلي -على الأقل كما أفهمه-، إنما يفترض بنا البحث في أسس التخلص من عامل السلاح، أو الفواعل الهجينة بحسب تعبير الباحث الدكتور حارث حسن، التي تضع قدمًا في داخل الدولة، وأخرى خارجها، والأمر يعود إلى ما يخدم توجهاتها، فهي تحقق الإفادة من الدولة، لأنها تضفي عليها الغطاء الشرعي، والتأمين المالي والتسليح لأفرادها، ما عدا ذلك هي أبعد ما يكون عن الخضوع لها.
النقاش الذي يفترض أن يكون هو في كيفية حماية القوانين وتطبيقها واحترام ما يتمخض عنها
لا منافسة حقيقية، ولا ديمقراطية فعلية في ظل وجود أطراف سياسية تحمي وجودها بهذا السلاح، وهذه سابقة لا توجد في أية نماذج ديمقراطية بالعالم أجمع. فمشكلتنا الأهم ليست في القوانين، ولا في فهمها أو طبيعتها، بل في التعدي عليها، وعدم الاعتراف بها إن لم تكن نتائجها في صالح الأطراف المتنافسة. وإلا، فإن الديمقراطية بوصفها نهجًا للنظام السياسي، والدستور العراقي أيضًا يعد جيدًا، بالنظر لما يضمه من مواد وفقرات تدعو إلى حماية الإنسان، والحريات، والحقوق.. الخ، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك، وعليه إن النقاش -كما يفترض- لا يتوقف عند القوانين، بل في كيفية حمايتها وتطبيقها واحترام ما يتمخض عنها.