عشرات القذائف والصواريخ التي تمطر بها مليشيا الحوثي وصالح أحياء مدينتنا تعز، بينما أسامرها وأمضغ القات غير مكترث. أصبحت أقل ميلًا للسهر منذ بدء هذه الحرب، فالموت ينتظر خلف النافذة ولا شيء يدعو للسهر أو للأرق، ولحسن الحظ: حينا مستهدف بالقصف وليس منطقة تماس، بمعنى، تستطيع بعض اﻷحياء الخروج لانتشال الجثث قبل أن تصبح طعامًا للكلاب.
تحول القات إلى ركيزة في سلوك يمنيّ لا يجد طريقة لاحتمال العيش في بلد بات أشبه بغرفة تعذيب
من المؤسف حقًا، وأنت تنتظر تطاير أشلائك بصاروخ متهور يهب من الغرب، أو قذيفة وقحة تزورك في هذا الوقت المتأخر من الليل، أن تقضي ما قد يصبح آخر اللحظات وأهمها في تاريخك، إذا ما كان يسمح للموتى برؤية اﻷحلام أو الكوابيس في قبورهم، وأنت تمضغ أوراق قات رديء، بالذات وأنت ناشط سابق في جمعية مكافحة أضرار القات!
لكن، وما دام اﻷمر متعلقًا بلحظاتك اﻷخيرة، فاﻷجدر أن تستمتع بها، وإذا كنت في بلد ليس به متع سوى الحرب والقات، فإن هذا الأخير سيغدو متعة وصك غفران معًا. يقول صديقي: ابتعد عن اﻷشجار وكن مع الماء، مهما كانت خطورته فيه فهو أقل ضررًا من الشجر، صاحبي يتحدّى غالبية اليمنيين الذين يفضلون القات ﻷنه "حلال" بفتوى بعض شيوخ الدين، ومع أني أصادق على صديقي، لكن القات عندي يتعلق بأمرين: رمزيته الوطنية "حلال ومتاح"، وإدمانه السلوكي غير البيولوجي، يعني هذا أن القات يمكن الإقلاع عنه، وإدمانه يتعلق بطقس اجتماعي وليس بخلل بيولوجي كما يحدث في باقي أنواع المخدرات.
بالنسبة لمجتمع يقضي حياته متنقلًا بين النقرة والدحديرة، فلا عجب في أن يتحول تناول القات من عادة في طريقها للاختفاء، إلى ركيزة أساسية في سلوك اليمني المسكين الذي لم يجد طريقة لاحتمال العيش في بلد غدا أشبه بغرفة تعذيب.
أما بخصوص رئيس الغرفة، صالح، فقد كان من أشد المدافعين عن القات، باعتباره بديلًا عن الخمر والمخدرات وباقي المكيفات الضارة، ولعل كثيرًا من أنصاره معجبون بدفاعه الذي فلسفه لشرعنة الفساد، إذ من المشروع تقريبًا لموظف حكومي أن يرتشي لشراء القات، وأصبحت "حق القات" كلمة السر النافذة لمخالفة القانون أو تطبيقه.
سر القات الباتع، أضاف عليه هالات من التبجيل تقترب من التقديس، ففي المظاهر المسلحة إبان أزمة ثورة 2011، كانت جنود صالح وخصمه المنظم للثورة، محسن، يقضون مقيلهم معًا، فترة بعد الظهر، وحتى صلاة العصر إذ يمر بعدها وقت يسير قبل أن يعود الفريقان إلى متاريسهما ويبدأ الوضع بالتوتر وربما الاشتباك!
للقات قصص وشجون كثيرة لا أستحب الحديث فيها.. ولعل صاحبي الفلسطيني الذي اقترح علي كتابة هذه المقالة متضمنة نصيحة لإخواننا العرب في سوريا والعراق وليبيا الذين دفعتهم الحرب للبحث عن حبوب الهلوسة والمخدرات لتجاوز معاناتهم بالقات اﻷقل ضررًا، أجدر لسابقة له في العناء، أن يشرح لنا جميعا كيف عاش الفلسطينيون مأساتهم بكثير من الصبر وقليل من المكيفات؟! أم أن ظلم ذوي القربى لا صبر عليه إلا بمهلكات العصب ومتلفات العقل؟!