يثير تاريخ التاسع من نيسان كل عام جدلًا شعبيًا حول مساوئ وحسنات النظام السابق ومقارنة ذلك بالنظام الحالي، وفيما إذا كان احتلالًا أو تحريرًا، وفي قضايا الديمقراطية والمحاصصة والاستبداد والإرهاب وقبضة الدولة الحديدية والفساد والميليشيات، وهنا لا بد من التذكير ببعض الملاحظات.
لا ينبغي أن نختلف في توصيفات النظام السابق ورأسه كحكم دكتاتوريٍ دمويٍ، بغض النظر عن تفضيله على الحالي من عدمه، ولنا رأيٌ غير الرأيين. كما لا نرى بالنظام السابق نظامُ مذهب أو طائفة معينة. لم يكن النظام صاحب مشروع طائفي بمفاهيمه ومنطلقاته ـ وإن جرت محاولات فاشلة في اللجوء إلى العامل الديني في تسعينيات القرن الماضي ـ بقدر ما هو امتداد طبيعي لفئة معينة مهيمنة على الحكم، لكن هذا لا ينفي نظرة الشك الذي يكتنزها النظام اتجاه الطائفة الشيعية والقومية الكردية.
ليس كل ما جرى للعراق كان سببه المباشر المحتل بصفته، بل فساد مجموعة السراق والجهلة الذين جاءوا مع المحتل
باستثناء تلك المتأثرة بقضايا طائفية أو التي تنبع من استفادة شخصية، فالكثير من حالات "الحنين" للحقبة الماضية تنطلق من مقارنة مع النظام الحالي، بين حالة الاستقرار والأمن، وبين الفوضى والعنف وانفلات السلاح؛ لكنها مقارنة سطحية غير موضوعية، بين نظام يَحكم نفسه بنفسه وبين مجموعة من رقع الشطرنج. لقد أثبتت التجارب العربية التي تلت احتلال العراق أن الاستقرار والأمن المفروضين بالقوة المفرطة والقمع والتعذيب والإعدامات والاغتيالات لن ينتجا لاحقًا إلا الاضطرابات والعنف، فما زرعه النظام السابق حصدناه مع الحالي. إن محاولة الفصل بين الحقبتين وعدم الأخذ بالسياقات يبدو طبيعيًا إذا خرج من عامة الناس التوّاقين للأمن والحياة (المستقرة) مقارنةً مع الاهتزازات الدورية اللاحقة، لكنه دليل على قصور في الفهم أو عُطبٍ في أخلاق إن تبناه المثقفون والنخب الفكرية والسياسية بهذه الطريقة.
اقرأ/ي أيضًا: عبد المجيد الخوئي.. صورة الضحية
ثمة انفجار شعبي ظهر للعيان يوم التاسع من نيسان/أبريل بعد كبتٍ طويل، أطلق عليه عراقيون يوم "سقوط الصنم"، وللتعبير دلالات واضحة تجسدت بالدوس على صور الرئيس وتكسير تماثيله، وبالفرحة التي ارتسمت على وجوه من جلسوا على كرسيه، أو عبثوا بمحتويات قصره. لا يمكن الغفران لنظام لم يتسبب فقط في عدم مقاومة شعبه لقوة محتلة لبلاده، بل كان السبب الأول في الصورة التي ظهر عليها الشعب نهار التاسع من نيسان.
بغداد لم تسقط
تبرز على مواقع التواصل الاجتماعي العراقية عبارةٌ في تاريخ التاسع من نيسان لكل عام، أصبحت مثارًا للتندر من بعض المدونين لكونها نغمةً تُعاد في كل عام. تقول العبارة: بغداد لم تَسقط، وإنما دخلها الساقطون.
والحق، أن بغداد سَقطت بفعل احتلال أمريكي، وسنتحدث عن ذلك لاحقًا، لكن العبارة الأخرى لا تقل أهمية عن فِعل الاحتلال، فليس كل ما جرى للعراق كان سببه المباشر المحتل بصفته، بل فساد مجموعة السراق والجهلة الذين جاءوا مع المحتل، تارةً لمشروع تقسيمي، وتارةً لتنظيم عمليات نهب للدولة، وتارة لتعويض خسارة السنين في الغربة.
جَمعهم الانقياد للخارج والاستثمار في التنوع الطائفي والإثني، وقادوا البلاد إلى حروب طاحنة وفساد قلّ نظيره، لذا يجب أن يقرأ ويسَمع هؤلاء تلك العبارة التي تصفهم بأنهم "ساقطون"، ويتذكروا أنهم سرّاق وعملاء دمروا بلادهم، ولا ينفعهم في ذلك أي ادّعاء، مثل مقاومة الأمريكان. ليعلموا أن أجيالهم ستسمع هذه العبارة كثيرًا.
"محتل عديم الفائدة"
على طريقة الممتعضين من اضطرابات ما بعد 2003، يَصف بعض المتشفين بنظام صدام حسين، يوم التاسع من نيسان "تحريرًا". والحق أن هذه التسمية لا تَدل إلا على انحراف عقلي أو أخلاقي، كذلك باستثناء العاطفيين من عامة الناس الذين ذاقوا الويلات من النظام السابق.
لكن لا ينبغي أن نختلف في المصطلح. لقد كان احتلالًا أمريكيًا باعتراف المجتمع الدولي ودون تفويض أممي. يُوصف طبقًا للأعراف الدولية بأنه فِعل قوة عسكرية خارجية تابعة لدولة معينة، دخلت عنوة إلى دولة أخرى ذات سيادة وهزمت جيشها وأسقطت نظامها واعتقلت رئيسها.
أفسد نظام ما بعد الاحتلال توق الناس إلى الحرية والكرامة المسلوبة في ظل النظام الدكتاتوري، وشوّه الديمقراطية في أذهان الناس ورَبطها بالانحلال وغياب الدولة
والمفزع، أن وصف بعض المثقفين والإعلاميين والسياسيين يوم التاسع نيسان بالتحرير، يأتي عكس ما يقوله الأمريكان عن أنفسهم. فهذا الحاكم الأمريكي للعراق بعد سقوط النظام بول بريمر يَصف وجود جيشه بـ"قوة احتلال".
اقرأ/ي أيضًا: تجاهل الشعوب والمفتشين بـ"حجة فاسدة".. احتلال دق مسمارًا في نعش النظام العالمي
ومع أن احتلال الدول مخالف للقوانين والأعراف التي بُني عليها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثالثة، وقد أدى إلى تخلخل هذا النظام وضَرب الفائدة العملية للأمم المتحدة عرض الحائط، ومع أن الاحتلال عبر التأريخ لا تُبرره حُجج منطقية أو أخلاقية، إلا أنه في العراق انطلق من "حجة فاسدة"، وكانت حربًا غبيةً كما وصفها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.
لم يكن احتلالًا، وبحجة فاسدة، فحسب، بل كان سببًا في مقتل مئات الآلاف من المواطنين بجعل العراق مسرحًا للحرب على الإرهاب الإسلامي، كما تفاخر وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، ومستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس، آنذاك.
تشويه القيم
انفلتت في التاسع من نيسان، القبضة "البوليسية" للنظام على المجتمع، فأخرج الأخير تقرحاته المختبئة منذ عقود، وقد رأينا بعض المشاهد المشابهة في دول يحكمها الاستبداد وعاشت ثورات شعبية. لكن المشكلة التي صَنعها نظام ما بعد التاسع من نيسان، إضافة لفقدان هذا الكم من الأرواح البريئة، هي إساءته للعديد من القيم البشرية الأصيلة والمستحدثة، أحّدها ترسيخ ظاهرة السلب والنهب والفساد بأشكاله تحت مسمى "حكم الشعب"، وهل هناك أسوأ من أن يَحن المرء للحكم الجائر والظلم والطغيان مقابل الخلاص من فوضى تُسمى "ديمقراطية"؟ لقد أفسد نظام ما بعد التاسع من نيسان توق الناس إلى الحرية والكرامة المسلوبة في ظل النظام الدكتاتوري، وشوّه الديمقراطية في أذهان الناس ورَبطها بالانحلال وغياب الدولة.
وكما في حالة "التواقون إلى النظام القديم"، هناك كارهون للنظام القديم ومستفيدون من النظام الحالي، وهو مشهد مُعتاد في دولنا العربية. لكن لا ينبغي لهذا القسم أن يُذكّر الناس في التاسع من نيسان بمصائب النظام القديم في إطار الدفاع عن النظام الحالي، واجتزاء المقارنات السطحية، فمصائب الجديد وكوارثه فاضحة. إن في هذا سلوك سلبٌ للضمير الإنساني، فمصيبة نظام المحاصصة الطائفية أنه أجبر بعض الناس للترحم على النظام السابق.
النشاز لا يصنع رؤية
إن حالة التنافر لدى قوى سياسية وإعلامها وجمهورها، بين ما يُكمنه القلب ويقوله اللسان وتفرضه المصالح ويريده الجار، يعكس خللًا في المنظومة القيمية والمفاهيمية لهذه القوى، كما يُظهر نشازًا لا يُستهان به. فالحيرةُ تُصيب بعض القوى التي تبني وجودها على العداء للنظام السابق، وتتبنى خطابًا رافضًا للاحتلال الذي أسقط النظام وأوصلها للحكم. وعلى الجانب الآخر لا تُظهر القوى فرحًا بسقوط النظام السابق لكنها لا تُدين الاحتلال الذي أسقطه لمصالحها المرتبطة بوجوده كما تعتقد. لذا، فأن المطلوب هو تحديد المفاهيم وفق الأسس العقلانية والأخلاقية والاتفاق على قواعدها، كاعتبار النظام السابق مستبدًا دمويًا أدى إلى تهيئة الظروف للكوارث اللاحقة، واعتبار الحاكمين الجُدد فاسدين دمّروا الدولة وتسببوا بهلاك الأبرياء، واعتبار الاحتلال احتلالًا، فالانتماء للنظام السابق أو الحالي، والانحياز للاحتلال، ليس مبررًا للتلاعب بالمصطلحات.
مصيبة نظام المحاصصة الطائفية أنه أجبر بعض الناس للترحم على النظام السابق
إن الاتفاق على المفاهيم والمصطلحات يُسهّل تناول النتائج المثمرة والسيئة لكل حِقبة أو طرف، بالتالي تجنب حالة النشاز التي تمر بها القوى السياسية المذكورة وجماهيرها. إن الاتفاق على ما ينبغي وما لا ينبغي، في القضايا أعلاه، لا يؤدي إلى صُنِع نموذجًا واحدًا في التعامل مع القضايا المطروحة عامةً، بل يؤدي إلى وضوح في رؤية الماضي والحاضر لتجنّب النشاز وفقدان البوصلة، وصناعة قاعدة صحيّة للحوار حول "ما ينبغي أن يكون" في المستقبل.
اقرأ/ي أيضًا:
التاسع من نيسان.. يوم بُعث الإرهاب
غزو العراق.. تفتيت الهوية وإفقار الشعب في رحلة الكذب الأمريكي