بعد المساوئ والأخطاء التي حدثت أثناء حكم الرجل الواحد أو ما يسمى بالنظام الدكتاتوري، جاء نظام آخر بديل ليجعل من الشعب هو (الحاكم) أي بمعنى الحكم بموافقة المحكومين أو ما يطلق عليه "الديمقراطية"، ظهر مصطلح الديمقراطية لأول مرة ببلاد اليونان القديمة، ليعبر عن نظام الحكم بأثينا، ويعد رجل القانون والمشرّع الأثيني سولون أول من وضع أسس الديمقراطية الأثينية، حيث نجح الأخير ما بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد في إرساء جملة من القوانين خلّصت أثينا من النزاعات الداخلية، وأنقذتها من شبح الحرب الأهلية. وقد باشر سولون تشريعاته بإصدار عفو عام والسماح للعديد من المنفيين بالعودة والحصول على كامل حقوقهم في سعي منه لمحو الذكريات السيئة التي عاشت على وقعها أثينا خلال الفترة السابقة.
يمكن أن نطلق على الديمقراطية العراقية كلمة "الفضيحة"، لأنها تنتج الأشياء التي لا تمثل وعي الأمة، بل مصالح الإقطاعيات السياسية الموجودة
عرفت أثينا تغييرات هامة وضعتها على طريق الديمقراطية المعاصرة، خاصة عقب بروز مبدأ المساواة أمام القانون. ولما يحتوي هذا النظام من أهمية وما حققه من نجاح جعله يتطور تطورًا سريعًا لتنقل تجاربه إلى العديد من الدول، خصوصًا في القرن السابع والثامن عشر، بحيث أنها أصبحت الديمقراطية إحدى المثل العليا المعترف بها عالميًا، كما أنها إحدى القيم الأساسية للأمم المتحدة. وإن الدعم لانتشارها كان واضحًا لكنه لم يكن بمصلحة الشعوب دائمًا، خصوصًا ما شهده العراق بعد عام 2003 وانتهاء حقبة سياسية صعبة على يد الاحتلال، فقد أصبح العراق من ضمن الدول التي دخلت الثورة الديمقراطية العالمية إبان الاحتلال الأمريكي وإسقاط حكم حزب البعث، وبالرغم من مرور أكثر من عقد ونصف، إلا أننا نجد أن التجربة الديمقراطية لم تأت ثمارها، فيطرح السؤال هنا لماذا فشلت الديمقراطية في العراق في إنتاج نظام حكم ينتصر للشعب ويحقق آماله وتطلعاته، مع أن الشعب هو من يختار الحكام عبر لعبة الصناديق، أنه التساؤل الأكبر الذي يثار في الشارع العراقي بعد خيبة أمل مريرة بفعل طبقة سياسية فاسدة سيطرت على الكرسي، وحسب آليات ديمقراطية! نعم يمكننا القول اليوم إن النظام الديمقراطي أنتج لنا نظام حكم فاسد، لكن السؤال الذي بعده، ما هي هذه الديمقراطية، وكيف فرضت، وما هو شكلها؟
اقرأ/ي أيضًا: ورطة الديمقراطية
ونعود للوراء قليلًا، نجد أن أحزاب السلطة في العراق حاليًا، كانت على الضد من أمريكا، وتعتبرها الشيطان الأكبر، وترفض التعاون معها، وكانت تنتقد الديمقراطية الأمريكية، وتعتبرها الأعور الدجال في العصر الحالي، لكن عندما أزاحت أمريكا باحتلالها نظام صدام العفلقي ودعتهم لتطبيق الديمقراطية الأمريكية في العراق، لبوا نداء أمريكا مسرعين، وارتضوا بكل الطلبات الأمريكية بعيدًا عن المصلحة الوطنية، ونهجوا بمنهج ديمقراطي هجين برعاية استعمارية أمريكية، فتخلوا عن ثوابتهم مقابل المشاركة في حكم العراق، وتحول الشيطان الأكبر إلى صديق حميم جدًا! فكانت هذه أول علامات الخسران، وهو ما حصل لاحقًا في إنتاج نظام حكم فاسد. يمكن أن نطلق على الديمقراطية العراقية كلمة "الفضيحة"، لأنها تنتج أشياء لا تمثل وعي الأمة، بل مصالح الإقطاعيات السياسية الموجودة في الحكم. فيما تمارس الأحزاب بشكل ممنهج ومدروس عبر ماكيناتها الإعلامية وقنواتها الفضائية وجيوشها الالكترونية، لتنتج قناعات عند الأفراد تصل إلى حد اليقين، مع أنها مجرد أكاذيب منمقة ومدروسة بعناية فائقة، وهنا عند هذه النقطة نحدد موقع المكر بالمواطن من قبل الأحزاب، مستغلين اللعبة الديمقراطية لتشكيل طبقة فاسدة تتمسك بالكرسي بكل ما تملك من قوة.
إن إشكالية إقامة النظام الديمقراطي تتمحور حول ثلاث نقاط:
- أولًا: الأحزاب السياسية، حيث تعد من أهم أسباب انتكاس الديمقراطية في العراق، وهي أحزاب تعمل لتضخيم سلطتها على حساب الوعي الديمقراطي، بعيدًا عن مصالح الوطن والشعب العراقي، حيث أسست منهج المحاصصة بالحكم، فجعلت من الدولة غنيمة تتقاسمها الأحزاب كلًا حسب وزنه النيابي، وهكذا تشكل حلفًا من الأحزاب التي لا هم لها إلا الاستمرار في النهش بلحم الدولة، غير مبالين باستمرار تخلف الحكم وتعاظم الأزمات التي لها ارتباط وثيق بالجماهير، مثل أزمة السكن والصحة والبطالة والتعليم، فألاهم عند أحزاب السلطة هو السيطرة على تخصيصات موازنة الدولة وتبديدها، والانتماء والبقاء والصعود في الأحزاب مبني على قدرالحب والانتماء لجماعة معينة، وبالتالي يتصدر المشهد عددًا من المنتمين والأكثر ولاءًا للجماعة وليس الأكثر كفاءة، فأصبحت العملية الانتخابية منح صك المرورلأجل الوصول إلى السلطة للاستمرار في تدمير الدولة، أي أن الديمقراطية أصبحت مشوهة، ولا تنتج الخير للأمة، ولا تجعل من الشعب هو الحاكم، بل هو المجني عليه، وبهذا أصبح النظام الديمقراطي يحكمه أناس غير ديمقراطين (دكتاتوريين بنظام ديمقراطي).
- ثانيًا: وعي المجتمع، فالمصيبة الكبرى هي غياب الوعي الجماهيري، فهناك جهل مقدس عام بسبب ما خلفه النظام الاستبدادي السابق، فقد أنتج عقلًا جمعيًا يحتاج إلى النموذج في كل قراراته وسلوكياته، وهذا يقود الناس لفعل الخطأ دومًا، لذا نجد الناس وخصوصًا محدودي الدخل والفقراء مع حياتهم البائسة، لكنهم يتجهون في كل انتخابات إلى تكريس تواجد حلف الأحزاب سيئ الصيت، مع علمهم بفساد من ينتخبوهم، لكن يعتبرون فعلهم كواجب مقدس يجب القيام به، وإلا اعتبروا عاصين لله إن لم ينتخبونهم من جديد، وهذا من آثار الاحتلال على وعي الناس والنظام الذي خلفه في شكله التوافقي "الطائفي"، فالناخب هنا، يضعف أمام المغريات أثناء بدء الانتخابات، فيبدأ بالاختيار والثقفيف لشخص معين، وفق ما يتواءم مع مصلحته ومصلحة "المكون" أو "الطائفة"، وبالتالي بعد سنين يقع البسطاء أو ممن انتخبوا ثمن خطأ الاختيار، فلو تواجد الوعي الجماهيري الذي يقوده النخب، لتم إقصاء كل الأحزاب الفاسدة عبر العملية الانتخابية بالإرادة الحرة الواعية، لذلك ندرك الآن سبب اهتمام الأحزاب في دوام الخراب كي لا يتشكل وعيًا جماهيريًا يقصيهم ويقضي على فسادهم.
- ثالثًا: ومثلما يقال إن الإنسان بأصدقاءه، فإن الدول بجيرانها، ومن أحد أهم أسباب تحول الديمقراطية في العراق إلى نظام فاسد، هوالإرادة الخارجية، والتي تسعى لجعل العراق حسب مصالحها، مكان للفوضى كي يكون دكانًا لتجارتهم، وساحة لصراعاتهم بعيدًا عن بلدانهم، والذي سمح للخارج بالعبث في العراق هي الطبقة السياسية الفاسدة، وبعض الأحزاب الموجودة، وهذه إستراتيجية أخرى لباقي الدول لتبعد نفسها عن نفس التآمر، فعندها تم مسخ الديمقراطية العراقية إلى نموذج سيئ جدًا، والآن صارلنظام الحكم في العراق سنوات مع إرادة سياسية لإدامته، أي يصعب تحريرالعراق منه حاليًا أوالعمل على إصلاحه، فالمتوقع أن تستمرالديمقراطية المشوهة في تثبيت حكم الطواغيت في العراق وإدامة الفساد، وتستمر الإرادة الخارجية التي بنيت على أساس الاستغلال مرة، وعلى الولاء بأخرى في تشويه الديمقراطية العراقية، وبذلك لم ولن تصبح لدينا علاقات متوازنة مبنية على أساس المصالح المتبادلة، إلا حين يقرر الشعب باستبدال تلك الطبقة بحكام جدد يقدرون العلاقات الخارجية ويقدرون التاريخ والجغرافية ليصنعوا عملية جيوسياسية متكاملة تضع نصب أعينها المصلحة فقط.
ومما سبق، نجد أن عدة أمور جعلت من الطبقة السياسية تتمرد على حقوق الفرد العراقي، مما جعل عددًا كبيرًا من العراقيين يتشائمون بشأن مستقبل بلادهم. غير أن العراق يملك الموارد اللازمة لخلق واحد من أنشط النظم الديمقراطية في العالم العربي، نظام يمكن أن يكون موضع حسد دول أخرى في أنحاء العالم. إن العراق لا يملك فقط ثروة نفطية هائلة، وموارد زراعية وكنوزًا تاريخية تمكنه من تنمية سياحة مزدهرة، ولكن الأهم من ذلك، هو أنه موطن مجموعة من التقاليد الغنية يمكن أن يستغلها مواطنوه لتكون أسسًا لبناء العراق الجديد. وهناك قول مأثور معروف هو "مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ"، فالعراق بطبيعته مجتمع منفتح ومتسامح.
يملك العراق الموارد اللازمة لخلق واحد من أنشط النظم الديمقراطية في العالم العربي
إن من الاستراتيجيات الرئيسية للنظم الاستبدادية هدم ثقة المجتمع في نفسه، وبالتالي آمال وتطلعات مواطنيه. ومن وسائل الدفاع المهمة ضد عودة الحكم الاستبدادي هي الحفاظ على قوة العملية الانتقالية الجارية نحو الديمقراطية. ويمكن للعراقيين أن يحققوا ذلك بأفضل الصور من خلال اســتمرار التركيز على المهام التي في متناول اليد وهي توســيع عدد المشروعات التي تدعم التحول الديمقراطي من أطراف آخرها احتجاجات تشرين ودور المرجعية كطرف داعم، وعدم السماح للعنف بأن يردعهم عن تحقيق أهداف بناء مجتمع ديمقراطي وعادل.
اقرأ/ي أيضًا: نزيف الدماء "السلبية" واغتيال الديمقراطية
ختامًا، أن إنعاش الديمقراطية في العراق، لن يكون فاعلًا إلا بجرعة أولية تعمل على تغيير النظام الانتخابي الحالي "سانت ليغو المعدل"، كونه يرسخ هيمنة الأحزاب والقيادات السياسية، ويجعلها قادرة على تحريف إرادة الناخبين بتوزيع الأصوات على مرشحيها، إلى القانون الأخير الذي طرحه الشعب مؤخرًا ومن جانب آخر، هدر الأصوات الانتخابية بتطبيق هذا النظام الانتخابي، والتي بلغت في انتخابات 2014 حسب مؤشرات المرصد النيابي العراقي 1.903.936 صوتًا. إن الخطوة الأولى يجب أن تكون باعتماد قانون انتخابي جديد يكون قادرًا على كسر دائرة هيمنة الأحزاب والقيادات السياسية على المرشحين، إضافة إلى وعي الناخب في الانتخابات القادمة والذي سيؤثر فيه ما حدث بانتفاضة تشرين من حراك ضد سلطة الطوائف والجماعات التي تهيمن على الدولة.
اقرأ/ي أيضًا: