لنا أن نلج الأماكن الأبعد، لنا أن نحيا اللحظات الأقصى، هناك حيث تنتصب الحقائق الأرقى. فريدريك نيتشة
استلهمت العنوان من الناقد الأدبي المصري عبد العزيز حمودة من كتابه المهم "المرايا المقعرة"، ذلك أن هذا النوع من المرايا يعكس الأشكال على غير حقيقتها ويضاعف في حجمها. والحق أن الطاغية جدير بهذا التوصيف؛ أنه يبالغ في إمكاناته وينفخ في ذاته إلى أن يدعي الإلوهية "أنا ربكم الأعلى". وهذا الادعاء لا يأتي بخطاب مباشر وصريح، بل عبر اصطناع نماذج وأيقونات تحدد من خلالها ما ينبغي وما لا ينبغي؛ على الجميع الرجوع إلى هذه النماذج، فلا يجوز الخروج عليها، ذلك أن الكل قالب واحد ومتطابق في عرف الطاغية، فينبغي رجوع الصورة إلى أصلها، وإلّا حلّت عليها اللعنة.
ليس الطاغية شخصًا بعينه، بل هو رمز لكل عملية انغلاق في التفكير وتغييب الآخرين لأنهم غير متشابهين معنا
استنادًا إلى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، دائمًا ما هنالك مسافة إطار مرجعي يقاتل من أجله الطاغية. يقاتل من أجل تفشّي الوهم وسيادة الحس المشترك في التفكير. ينبغي أن يكون المجتمع نسخًا مطابقة لـ"مُثُل" الطاغية. عالم المثال هو الأصل والمبدأ، طبقًا لأفلاطون، ومن لم تكن نسخته شبيها بهذا الأصل والمبدأ فو نسخة مشوهة. أي محاولة للتفرّد فهي تهديد مباشر لعالم الطاغية، فينبغي أن يكون "المحسوس مطابقًا للمعاني" لكي لا يتم الخلط بين "المعنى" الذي يصطنعه الطاغية وبين انحراف رعاياه؛ فهم قطعان سهر على تغذيتهم بالعلف الجيّد، إنّهم متشابهون كما لو أنّهم توائم سيامية، لذا عليهم أن يماثلوا أيقونته ويحافظوا على تقارب "الأصل". كل من لم تطابق أيقونته فهو شيطان رجيم. وكل اختلاف يعني اختراق وتدمير لعالم المُثُل التي نسجها على منواله؛ إنه الإله المسيحي الذي تكون النسخ البشرية مخلوقة على صورته، فيجب إخضاع الجميع إلى هيمنة الأصل والمبدأ. يجب أن يبقى الجميع ملجومًا بهوية مغلقة صلبة تتوزع على قطعان الطاغية بشكل متساوٍ ليكونوا متطابقين تمامًا. أمّا الاختلاف فهو خارج دائرة المواضيع التي تقسّمها الهوية بالكيفية التي تطابق مكوناتها، بمعنى أن الهوية المغلقة توهمنا بالاختلاف، لكن اختلاف مزيّف يجري داخل الأطر المرجعية، والمقولات المسبقة لهذه الهوية، فمن يختلف خارجها فسيعرّض وجوده للتلف. لذا، أينما وُجدت مسافة بين الأصل ونسخته سيتم تدميرها لأنها ابتعدت عن أصلها كثيرًا فينبغي القضاء عليها. إن ابتعاد النسخة عن الأصل والمبدأ يعني ابتعاد عن الشبيه، لذلك يبقى قدر الأحرار هو اللاتماثل واللا تشابه؛ إنهم ينتمون إلى عالم المرايا (العادية وليست المقعرة!) التي ينعكس بعضها بعضًا دون الرجوع إلى أصل أو مبدأ، إنهم أحرار من نماذج الطاغية المٌصطنعة.
اقرأ/ي أيضًا: سبعة قرون من الاستبداد
ليس الطاغية شخصًا بعينه، بل هو رمز لكل عملية انغلاق في التفكير وتغييب الآخرين لأنهم غير متشابهين معنا. في حياتنا اليومية يعمد الكثير منّا إلى جذب الآخرين في منطقته للحصول على أشباه ونظائر تحاكي طرق تفكيره وتصرفاته. إنّه يحاول جاهدًا أن يخلق نسخًا مشوهة من ذاته من خلال الآخرين ليحقق التطابق المنشود. من هنا نفهم مقدار النفور الذي نبديه لكل من يخالف طرق تفكيرنا وسلوكياتنا، فمن هذا المنظور يغدو طغياننا (أفكارنا المسبقة التي تشكّل ذواتنا ومثالنا "النقي")، هو الأصل، لأننا ننظر من مرايانا المقعّرة، التي تبدي الأجسام أكثر من حجمها، أي أننا نرى ذواتنا أكبر من حجمها بكثير، ولا تقبل بمرايا صافية وعادية تنعكس على بعضها بدون أي نقطة مرجعية ترتكز عليها، رغم أن النقاط المرجعية مهمّة، مؤقتًا، للتفكير، شريطة أن لا تتحوّل إلى أحكام مطلقة، لذا تجري مراجعتها وتشذيبها دومًا لكي لا تتحوّل إلى أصول ثابتة.
تكثر هذه النزعات والميول في المجتمعات التي لا تقيم وزنًا للحريات، والتي تمتّ تنشئتها على يد الأنظمة الاستبدادية، فيتحول المجتمع إلى نسخ تطابق بعضها؛ كما لو أن المجتمع يتمرّن على مشهد تمثيلي للزيّ الموحّد! مثلًا، كان صدام حسين يعتبر العراقيين على أنّهم بعثيون وإن لم ينتموا للحزب. وبالطبع تضاعفت عضوية الحزب طوال حكم "القائد الضرورة"، وتحول المجتمع العراقي صورة تطابق نفسها، وتحوّل الانتهازيون والخائفون والمجبرون والمستمتعون كقناع للمجتمع المدني الذي لم يكن مدنيًا على الإطلاق. بل وصل التطابق لمستويات عالية جدًا بحيث عمد الكثير من العراقيين بتسمية أبنائهم تيمّنًا باسم صدام حسين. ليس هذا فحسب، بل انتشرت ظاهرة تقليد هذا الطاغية ومحاكاته بالكلام والسلوك والإيماءات، حتى توفرت لدينا الكثير من النسخ التي تحاكي أصلها (صدام)، ولا زالت هذه النسخ يقتلها الحنين إلى ذلك الأصل، فغيابه يعني غياب النسخة المماثلة وتلاشيها وضمورها ومن ثمّ تموت لأن الأصل توأمها السيامي وهي تحاكيه حذو النعل بالنعل.
لا زالت هذه الحالة تعبر عن نفسها حتى هذه اللحظة وإن كانت بأشكال تعبيرية مختلفة؛ ذلك أن الطغيان الجديد، بشقه السياسي، لديه مبادئه وأصوله وأيقوناته، وفي المقابل لديه نسخه المطابقة لهذه الأصول. إنهم يخلقون باستمرار قوى اجتماعية ممانعة تدفع باتجاه الإطاحة بكل نسخة متفردة لا تشبه "مُثُلُهم". ذلك أن النسخة غير المطابقة للأصل تعني تهديدًا مباشرًا لهويتهم الصلبة كما وضحنا أعلاه. على سبيل المثال، لا زال التمثيل البرلماني تمثيًلا ساكنًا، والتعبير لغسّان سلامة، ومطابقًا للمجتمع الذي صنعوه طبقا لأصولهم وأيقوناتهم الثابتة، بينما يخلو من التمثيلات النشطة التي تمثّل التيار المتنامي في المجتمع العراقي.
أصبح الشاب العراقي أكثر قدرة على تغيير مسارات حياته، وهو يكافح من أجل نيل الحرية والعدالة في مجتمع يدمّر النسخ المتفردة والتي لا تحاكي أصلها. لذلك كانت انتفاضة تشرين هي انتفاضة لقطع الحبل السري الذي يربط الجزئيات بالكلي، أو يربط الصور بنموذجها المزعوم؛ إنها عملية تحرر مضنية أطلقها الشباب، كرة ثلج دحرجوها، ولا نعلم ما هي نتائجها المستقبلية (بالرغم من أن هنالك بعض الشباب أبدو تشابهًا ومطابقة للقوى الاجتماعية الممانعة باستبدادهم). يقابلها قوى اجتماعية وسياسية محافظة تتطابق مع بعضها مطابقة كلية، أي لا توجد فيها نسخة مُحرَّفة عن أصلها على الإطلاق، تقاتل من أجل "مٌثُلٌها" ولا تسمح بأي تفرّد عابر لأي نموذج سياسي جاهز وأي نسخة ليست مطابقة لأصلها.
كانت انتفاضة تشرين عملية تحرر مضنية أطلقها الشباب، كرة ثلج دحرجوها، ولا نعلم ما هي نتائجها المستقبلية
الخلاصة التي نخرج بها من هذه الكلمات: ثمّة صراع مستمر بين قوى اجتماعية تكره التغيير، وبين جيل جديد يسعى جاهدًا، رغم بعض الإخفاقات، أن يخلق نسخته الخاصة التي لا تشبه النموذج والمعنى الذي فرضه الطاغية، تلك هي قصتنا باختصار.
اقرأ/ي أيضًا: