من أكبر المكرمات التي وهبتها الحكومة لفقراء المناطق الشعبية هي "مدن العشوائيات". والتي تم بناءها على يد العوائل التي اختنقت بهم المساحات في مدينة الصدر. وما على هذه المناطق سوى تسميتها بأسماء دينية مثل: "حي الزهراء"، "حي أم البنين"، "حي الرضا" .. الخ. لتكفل لهذه المدن الدخول في عداد المقدس، فبهذه الخطوة يتحصّل الضمان اللازم لتثبيت "حقوق المواطنين" في هذه المدن المُعَذَبَة، ويحق لهم الكلام عن "ملكياتهم الخاصة" وعقاراتهم الجديدة.
سميت مناطق العشوائيات بأسماء دينية مثل: "حي الزهراء"، "حي أم البنين"، "حي الرضا"، لتكفل لهذه المدن الدخول في عداد المقدس!
ولكي تكتمل دائرة المقدس هبّت الناس لتغيير أسماء المستشفيات، وقد صادقت الجهات الرسمية على هذه "المكرمات السخية" بتبديل الأسماء في المناطق الشعبية، وملحقاتها من مدن العشوائيات، لذات السلسلة من الأسماء الدينية: مستشفى الإمام علي (الجوادر سابقًا)، مستشفى الشهيد الصدر (القادسية سابقًا)، مستشفى الزهراء (الحبيبية سابقًا). وقد ألحقت بهذا الركب الكثير من المدارس وتم ربطها بذات السلسلة "المقدسة". فلم تعد الخدمات الطبية التي تقدمها المستشفيات هي المعيار، ولا جودة التعليم الذي تقدمه المدارس، ولا نوع الرفاهية الذي يقدمه العقار، بل الختم المقدس أولًا وآخرًا فهو الحاكم على الحياة والموت، وما عداه هامش ضئيل لا يستدعي الكفاح!.
اقرأ/ي أيضًا: متى ينكسر جسر "الشروكَية"؟!
وبعد الختم المقدس هذا أتجه القوم إلى الطعام ليختموا عليه أسماءً دينية مثل: "دجاج الكفيل"، "دجاج الحضرة"، "دجاج الهدى"، و"دجاج المراد". وبهذه الطريقة يغدو سَكنَة مدن العشوائيات والمناطق الشعبية، التي سبقتها في هذه المبادرات، يسكنون ويتعالجون ويأكلون كل ما هو مقدّس، ويلبّون بكل شجاعة نداء المقدس إذا دعاهم للقتال والدفاع عن بلدهم، وبعد نهاية الكفاح يرجعون كما السابق، ولا يطالهم تغيير يذكر في نوعية حياتهم رغم الكرم الملحوظ الذي يجودون به تجاه وطنهم. حتى طرق النظافة هناك تخضع لمعايير مقدسة، فحينما يقترب شهر محرم وطقوسه الحسينية المعهودة تزدان الأزقة الضيقة بالأضواء والصور والشعارات الدينية، فيقل منسوب النفايات هيبةً واحترامًا لهذه الرموز الشاخصة على واجهات البيوت الخربة، وبعد انتهاء الطقوس ترجع الحياة بصورتها الكئيبة المعهودة.
مدينة الصدر "المنوّرة"
هبّ الصدريون بعد سقوط نظام البعث بتغيير اسم مدينة "الثورة/ مدينة صدام"، إلى "مدينة الصدر"، كردّة فعل تجاه الحرمان والتنكيل السياسي الذي تعرضوا له على يد نظام البعث. وتيمّنًا باسم الشهيد الصدر اكتست هذه المدينة المحرومة اسمها الجديد الذي يترجم قصة ولاء شديدة العمق عاشها الصدريون مع مرجعهم الذي اهتم لأمرهم وأشعرهم بوجودهم. ويحلو للجمهور الصدري إضافة كلمة "المنورة" وبهذا تغدو العبارة "مدينة الصدر المنورة". ومعلوم أن مقاصد الجمهور الصدري من هذه الإضافة المميزة تنطوي عل دلالات رمزية؛ فلا يقصدون منورة بالبنية التحتية والخدمات وفرص العمل، فواقع المدينة أكثر رعبًا من هذه التوصيفات!.
من دون شك إن الشعوب تتمسك بقادتها وتيمّنًا بهذه الشخوص التي تشكّل رمزية مهمة في الوجدان الشعبي تطلق أسمائهم على مدنها. ولنا أن نتخيل حيًا سكنيًا أو مستشفى أو مطارًا في بلدان أوروبا وأمريكا يحمل أحد أسماء قادتهم التاريخيين، ترى كيف سيكون؟
كان للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر أثرًا بارزًا وعميقًا في الوجدان العراقي عمومًا والشيعي على وجه الخصوص. وبدون شك أن تمسّك الجماهير الدينية بقادتهم الروحيين هو أكبر بشكل مضاعف من غيرهم؛ فقد كان غاندي رمزًا وطنيًا وروحيًا حفر عميقًا في الوجدان الهندي، وكذلك ترك روح الله الخميني أثرًا روحيًا وسياسيًا ودينيًا غائرًا في قلوب الإيرانيين. وبهذين المثالين التاريخيين، يمكن القول إن لا أحد يجرؤ بتخليد ذكراهم بمنطقة شعبية لا تصلح للسكنى، ومن غير المعقول أن تُّخَلّد ذكراهم بمستشفيات تفتقر لأبسط مقومات العناية البشرية، ولا يمكن تسمية شارع متقاعد عن الخدمة منذ سنين! و"تكريمه" بأحد الأسماء التاريخية المهمّة. المفارقة الغريبة هنا، أن أقرب الجماهير للمقدس قامت بتدنيسه، من خلال التسرّع بتسمية هذه المدن المُتعبة بأسماء دينية. وبدلًا من اعتبار هذه الأسماء محفّزةً للحياة، أضحت مقدمات سريعة نحو الموت!، ومن يتجوّل في مدن المناطق الشعبية وملحقاتها من مدن العشوائيات سيفهم ما أعنيه من كلمة تدنيس.
اقرأ/ي أيضًا: دفاعاً عن "ألمان" بغداد
والحق إن مدينة الصدر لازالت شكلًا بلا مضمون، وهي في أفضل حالاتها ليست سوى مدينة أشباح، أو منطقة موبوءة لا تصلح للاستخدام البشري؛ فطفح المجاري، والروائح الكريهة المنبعثة وسط الأزقّة، وبيوتها المتهالكة الضيّقة التي تعرضت للتقسيم أثر الأزمة السكانية الخانقة، والكثافة البشرية التي تتزايد باطراد، وفقر النظام الصحي والتعليمي، وانتشار الأمراض، وتردي الخدمات، وتفشي ظاهرة البطالة، ونسبة الأمية المتزايدة، خصوصًا بين الإناث، وزيادة عدد الأرامل والأيتام. باختصار: إنها البقعة المعذبة والمنكوبة في العراق، وتشكّل نموذجًا صارخًا لمدن العشوائيات الأخرى، حتى لو كانت تسبق هذه المدن تاريخيًا بخطوة، لكنّها على ما يبدو ذاكرة "حميمية" لا تفارق الفقراء يوم كانوا متكدسين في مدن العشوائيات في بغداد قبل الخطوة التي قام بها عبد الكريم قاسم في تمليكهم أراضٍ في الضفة الشرقية من بغداد. لقد كان سَكَنَة مدينة الصدر الأوائل من "روّاد" مدن العشوائيات، لذلك لم يستغربوا حتى هذه اللحظة بمدن العشوائيات الجديدة التي تجاورهم حاليًا، والتي تشكّل معها خارطة متكاملة توضّح قصة العذاب البشري، لأناس لم يقصّروا في الدفاع عن بلدهم وخدمته بإخلاص دون أن يحظوا بمقابل يتناسب مع تضحياتهم. إنّه إهمال متعمد لتبقى هذه المدينة مصنعًا انتخابيًا لجلاوزة السياسية، ومعسكرًا تعبويًا، وحميمية عالية جدًا للرمز الديني والعشائري، ولا شيء غير ذلك بالمطلق.
ومن لا يعرف مدينة الصدر ومدى ما تكابده هذه المدينة "الفاجعة" من ألم وبؤس وخراب، سيعيد حساباته كثيرًا عن غاية الوجود البشري؛ بيوت ضيقة مساحتها لا تتجاوز 144 مترًا، وقد قام أصحابها بتقسيمها ثلاثة أقسام، ليحققوا بعض الخصوصية للمتزوجين الجدد!. المألوفات في هذه المدينة لا تعد ولا تحصى، فرائحة المجاري، وطفح المياه الثقيلة، والرطوبة التي تتخلل معظم الدور السكنية، والأجواء الخانقة، وبعض الأطفال العراة بألعابهم النارية المألوفة، وسواقي المجاري وانسداداتها الظاهرة للعيان تشكّل ظاهرة مألوفة لدى السكان. جيش من العاطلين عن العمل، وتعداد سكاني هائل بحجم محافظة كبيرة، والمناطق المحاذية لها من مدن العشوائيات لا تقل بؤسًا وترويعًا عنها.
من يشاهد الأمور عن قرب سيرى كثرة الأسماء الدينية وتدهور أبسط مقومات الحياة، لا شيء تبدّل سوى الأسماء وكثرة الولاءات، من دون أن يفكر سكّانها عن جدوى حياتهم. لا أعرف إن كان أهالي مدينة الصدر ومن يماثلهم في هذا العذاب في مدن العشوائيات، تخطر في بالهم أهمية الحياة الكريمة والعيش بكرامة أسوة بأخوتهم في مناطق بغداد الراقية. لقد شاهدنا تلك الحشود الكبيرة من أهالي مدينة الصدر وهم يرتدون الملابس العصرية في ضفّة الكرخ ليتنعّموا بنسيمه العليل، لكنّهم قانعون بحياتهم في هذه المدينة بكل ما يحمل الزهد من معنى. حينما يتحدث أهالي مدينة الصدر بشراهة عن بعض مناطق الكرخ، يُخيّل للآخرين كما لو أن هناك رواية تسرد لهم قصصًا عن مباني نيويورك العملاقة وناطحات ماليزيا وطوكيو وشنغهاي، بالرغم من أن هناك مناطق في الكرخ أصبحت لا تختلف كثيرًا عن مدينة الصدر بصخبها وخدماتها المتراجعة وعشوائياتها المقدسة. إن الحياة المرفهة لبعض سكنة بغداد تغدو قصص المساء الأثيرة للعوائل الفقيرة في مدينة الصدر ومدن العشوائيات، ومن ثّم يختمون قصصهم هذه بحفلة صاخبة لجلد الذات وتحقيرها. ويحكم العادة التي تمت تنشئتهم عليها لا يجدون أنفسهم أهلًا للحياة، بل كل ما يجري هو استحقاق لهم، وربما لا يرون أنفسهم جديرون بالحياة. كل هذا يجري في مخيلتهم دون أن يفكروا ولو للحظة عن جدوى هذا البؤس البشري، ولماذا يترفّه الغير على حساب بؤسهم وعذاباتهم.
لم تعد الخدمات الطبية التي تقدمها المستشفيات هي المعيار، ولا جودة التعليم الذي تقدمه المدارس، ولا نوع الرفاهية الذي يقدمه العقار، بل الختم المقدس التي تسمى باسمه المناطق أولًا وآخرًا فهو الحاكم على الحياة والموت!
لا يوجد عندي دليل إن كانت هناك علاقة بين كلمة "منوّرة" و "وتنوير"، وأيضًا لا أعرف المقاصد العميقة من احتفاء أهالي مدينة الصدر بهذه الكلمة. إن كانت تيمنًا بالشهيد محمد محمد صادق الصدر، فلا أظنه سعيدًا بهذه النتيجة على الإطلاق.
اقرأ/ي أيضًا: