في الجزء الأول من هذه المقالة كانت الأسئلة الواردة في متنها تحيلنا إلى الريبة والتشكيك حين تعنون تنظيمك الحزبي بـ"الإسلامي"، أو أي تنظيم يحمل سمة دينية. فهو لا يخلو من أمرين: إما أن يكون حزب يحمل مشاريع دينية تمتلك الخطة والرؤية والمشروع لإقامة دولة دينية تستند على روح الشريعة، أو هو تنظيم علماني من حيث الممارسة السياسية. على أن هذا لا يمنع من أي تنظيم ديني في المستقبل، بعد إعادة النظر في خطابه السياسي؛ أن يمارس العمل السياسي ويمكنه أن يحقق نجاحات ملموسة. فمن الممكن أن تظهر حركة دينية تنظم نفسها وتبرهن للآخرين نجاحها في حقل السياسة وإدارة الدولة. لكن شريطة أن تترجم عملها دنيويًا كحزب العدالة والتنمية، على سبيل المثال، بزعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وبالطبع نستثني شعارات أردوغان ومزايداته المنافقة فيما يخص الإسلام، فالرجل في نهاية المطاف يضع نصب عينيه مصالح البلد القومية ولا يمنعه من إقامة علاقات دبلوماسية مع دويلة إسرائيل لضمان مصلحة بلده. المهم في الأمر أن سلوك حزب العدالة والتنمية سلوك دنيوي محض ولا علاقة له بالغيب والإيمان الديني لا من قريب ولا من بعيد.
إن الروحي كحجر الماس يقطع ولا يقطعه شيء، في حين يبقى الزمني كقطع الزجاج عرضة للكسر والتهشيم في أي لحظة
إن الارتباط بالسماء شأن شخصي وعلاقة روحية فردية لا يمكنها أن تترجم نفسها على شكل تنظيم حزبي، إلّا إذا كان لديها مشروع حقيقي بتطبيق الشريعة وبنودها الفقهية تحديدًا، أما الغيب، أما الإيمان، فلا يمكنه أن يتحول إلى مقولة سياسية. بمعنى أوسع، لا يمكن للإيمان أن يتحول إلى مقولة عقلية؛ فحصر اللامتناهي (الله) في المتناهي (العقل) يحيل العملية الإيمانية برمتها إلى محض تمثلات ذهنية. ولكي يحافظ الإيمان على نقائه وطهرانيته، ينبغي عليه أن يكون بعيدًا عن الفعل السياسي، بعبارة أدق: فصل الروحي عن الزمني. فمن العسير للغاية أن يتحول الغيب إلى مقولة سياسية ويموقع نفسه في تنظيم بائس لا هم له سوى الاستيلاء على السلطة لتبرر له المزيد من النهب والسلب. ومن يشاهد فساد التنظيمات الإسلامية في العراق سيتذكر مقولة علي بن أبي طالب "يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع". إن الزمني عرضة للتفسّخ والانحلال والتجدد، بينما يبقى الروحي متعاليًا عن كل هذا. وإذا كان التعالي مشكلًا فلسفيًا، فلنختصره على حقل السياسي؛ أي أن الروحي يبقى متعاليًا عن السياسة. ولا نعني بالتعالي هنا كإطار مرجعي وأصل ميتافيزيقي ونقطة مرجعية للسياسي، وإنما المقصود التمايز والفصل وخصوصية الحقلين وانتفاء العلاقة بينهما كليًا.
اقرأ/ي أيضًا: محنة التنظيمات الإسلامية (1 ـ 2)
إن الروحي كحجر الماس يقطع ولا يقطعه شيء، في حين يبقى الزمني كقطع الزجاج عرضة للكسر والتهشيم في أي لحظة. لكن إذا تم إقحام الروحي في ميدان العمل السياسي فسنحيله إلى زجاج! وهذا ما تفعله بالضبط التنظيمات الإسلامية. بمعنى أن الزمني عرضة للتغيير والتبدل والمخاتلة والمراوغة والتسافل والانحطاط، ولا يجمع هذه المتناقضات غير عقد اجتماعي يقترب من مفهوم الشريعة غير أنها شريعة دنيوية محايثة تعني بإدارة شؤون البشر في الدنيا، وحتى هذه اللحظة لم تعلن التنظيمات الإسلامية عقدًا اجتماعيًا مُستلهَمًا من روح الشريعة الإسلامية لكي يتضح عنوانها الذي تستند عليه، ولا نريد التكرار فيما ذكرناه في الجزء الأول من هذه المقالة.
قد يجادل البعض، أن إشكالية الروحي والزمني تنطبق على الدين المسيحي ولا تنطبق على الدين الإسلامي، ذلك أن المسيحية بلا شريعة، في حين ينفرد الإسلام بميزة الشريعة علاوة على الجانب الروحي والعقائدي وما شابه ذلك. بصرف النظر عن جدلية الزمان والمكان في الشريعة الإسلامية وبصرف النظر عن تاريخية الأحكام الشرعية، بعبارة أدق: بصرف النظر عن نسبية الأحكام الشرعية بين زمن وآخر، فسيكون الجواب ذاته: فلتعلن التنظيمات الإسلامية أنها تمتلك مشروعًا كاملًا لدولة إسلامية طبقًا لحدود الشريعة، وعندئذٍ نفهم الهيكلية العامة والخطوط العريضة للدولة الإسلامية على الأقل. وحتى ذلك الحين تكتسب هذه المقالة وغيرها مشروعية هذه التساؤلات التي تنظر بريبة وتشكيك حول محتوى ومضمون التنظيمات الإسلامية وطبيعتها الأيديولوجية.
نجح البروتستانت ليس لأنهم حفظة للكتاب المقدس، بل ترجموا أهم حقيقية في الحياة وهي العمل، واتخذوه عبادة لهم. يحصي عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" نسبة كبيرة من المتعلمين وتوجههم نحو التعليم والتدريب والسياسة، فكانوا أحد دعائم البناء في أوروبا، بينما ظل الكاثوليك أوفياء لأكثر الأشكال روحانية في الدين المسيحي. وفي الجانب الآخر، حددت حركاتنا الإسلامية نفسها بالموت فقط! لقد أصبح الموت مشروعًا استراتيجيًا وخطة عمل مرتبطة بالغيب تحديدًا. لذلك يموت الكثير من أعضاء الحركات الإسلامية واتباعهم طمعًا بالقرب والزلفى من الله. وهذه علاقة لا يحق لنا التدخل فيها بالطبع، ما نتدخل فيه هو أن يتحول الموت ومفهوم الشهادة إلى مشروع دائم لا يسفر عن نتائج دنيوية، وأعني بها بناء الدولة ومؤسساتها ونظام ديمقراطي ومجتمع مواطني. فعلى الأقل وفاء لدماء من ضحوا ينبغي تعديل المسار والتفكير بجدية ببناء دولة وخلق نموذج ملهم يمكن التأسّي به. مثلًا، استطاع غاندي أن يوظف مفهوم اللاعنف ويستلهمه من الديانة الهندوسية ويحرر الهند من الاستعمار لاحقًا. ويمكن استلهام الكثير من النماذج المضيئة في الإسلام لدمجها في العمل السياسي وتكريسها للخير العام، كمفهوم العدل وأنه "أساس الملك"، على الأقل سيتضح لدينا معيار محدد نقيّم فيه التنظيمات الإسلامية، بدلًا من اضطرارها للعيش على شعارات عائمة وغامضة وشعبوية توظفها مذهبيًا لمغازلة وجدان الجمهور المؤمن.
المهم في الأمر، هل عدمت النماذج لدرجة أن يتحول الموت إلى مشروع عمل في التنظيمات الإسلامية؟ أيًا كانت أسباب الموت ودوافعها ومسبباتها، فلكل شيء نهاية، ونهايته أن تتوج هذه التضحيات إلى مشروع دنيوي ونموذج ملهم ومقنع ومطبق على أرض الواقع. كل الحضارات البشرية تم تشييد جزء كبير منها على جثث الموتى، وكل نماذج الدولة الحديثة تم تشييد جزء كبير منها على جثث الموتى. معلوم أن هذه الكيانات الضخمة تحتاج على طول تاريخها إلى شهداء ومضحين، لكنها أسفرت عن نماذج مؤسساتية ضخمة، إلا التنظيمات الإسلامية فهي لا زالت ترفع شعار الموت كبديل عن بناء الدولة! وتذهب كل هذه التضحيات لصالح الانتهازيين والوصوليين. ثم نسمع تبريرات واهية من قبيل: "الحفاظ على بيضة الإسلام".
الدولة الدنيوية ليست مشروعًا إلحاديًا صُمّمَ على أساس نفي الدين كليًا، بقدر ما هي كيان يحفظ الاجتماع البشري
إن الدولة الدنيوية ليست جبهة مضادة للدين! ولا هي مشروع إلحادي صُمّمَ على أساس نفي الدين كليًا، بقدر ماهي كيان يحفظ الاجتماع البشري. إنها ليست حالة نفي بقدر ما هي فصل الروحي عن الزمني. فالدين ليس بحاجة لتنظيم سياسي يحفظ كيانه من الضياع! وليس بحاجة للدولة لكي تتخذ منه هوية لها، ذلك أن الفضاء العام يسمح للدين وغيره من ممارسة طقوسه الدينية بحرية تضمنها الدولة الدنيوية. إن المتدين لا يحتاج إلى رجل الدين في حقول العلم وتفريعاته المتعددة؛ كالطب والهندسة، والكيمياء والفيزياء وغيرها، كذلك، لا يحتاج إلى الدولة لممارسة أموره العبادية، اللهم إلّا فقه المعاملات، فيمكنه أن يسند التشريعات القانونية من قبل الفقهاء، هذا ممكن إن استطاع الفقهاء من تقديم حزمة من التشريعات الفقهية للجمهور المؤمن بهذه التشريعات، ووضعها موضع التنفيذ على أن يكون لصالح من يؤمن بها، وهذا ما نعثر عليه في قانون الأحوال الشخصية كما أسلفنا. غير أن هذا كله لا يحتاج إلى تنظيم إسلامي. إن الدولة الدنيوية تضمن هذا كله ولا تنتظر تنظيمًا دينيًا يحدد لها نظرتها للدين. فما هي يا ترى وظيفة التنظيم الإسلامي في ظل دولة دنيوية؟
اقرأ/ي أيضًا: