12-فبراير-2022

العشيرة في العراق تعتبر سلطة رابعة مضافة للسطات الثلاث (فيسبوك)

لا شيء جديد سنضيفه في هذا المقال حول قوة العشيرة المتنامية، فقد كتبنا أكثر من مقال بخصوص هذه الإشكالية العويصة في المجتمع العراقي، والتي ستبقى مسكوت عنها إلى أجل غير مُسَمّى. لكن، وفي محافظة ميسان يغدو الأمر مختلفًا تمامًا، فثمّة مشاكل ثلاث تتجلى بوضوح في هذه المحافظة لتكون أحد الأسباب  الجوهرية لكثير من النزاعات المسلحة التي نشهدها بين الحين والآخر، وأعني بها: تجارة المخدرات، والفصائل المسلحة، والعشائر. تعتبر هذه الثلاثة أحد الإشكاليات الرئيسية التي تضاعف معاناة سكنة محافظة ميسان. وعلى الرغم من الخبرة المتراكمة، والتدريب العالي الذي حظيت به قواتنا الأمنية، إلّا أنها لم تسجّل أي خطوة إيجابية في هذا الملف، فالخبرة شيء والقرارات السياسية شيء آخر.

بعد استفحال أعمال العنف بين الفصائل يسارع المسؤولون لعقد الجلسات وإرسال الوجهاء كما لو أن قضايا الأمن الحساسة تدار بالترضيات والمصالحات

بالمناسبة، لو تعلّق الأمر بقمع المتظاهرين فستتحول ميسان إلى جحيم مطبق على ساكنيها، ولشاهدنا أعلى المهارات التكتيكية في فنون الاغتيال، لكن إذا تعلق الأمر بنزاعات عشائرية أو تصادمات بين الفصائل المسلحة نفسها فسنرسل الوفود العشائرية والشخصيات الدينية لحل النزاع، والمستباح الوحيد أو الضحية الوحيدة في كل ذلك هو الدولة والمواطن، والمستفيد الوحيد في ذلك كله هو السلطة وأتباعها.

اقرأ/ي أيضًا: من العشائر والقاضي إلى "الصدريين والعصائب".. قصة الانفلات الأمني في ميسان

على أثر انسحاب القوات الأمريكية المقاتلة من أفغانستان وعلى أثر الفشل المدوي الذي منيت به القوات الأفغانية وهي تترك مواقعها لقوات طالبان، لفت نظري تصريحًا لوزير الدفاع الأمريكي الحالي مضمونه: إننا دعمنا القوات الأفغانية بالمال والسلاح، لكننا لا نستطيع أن نعطي الإرادة والوطنية لهذه القوات. وبصرف النظر عن مصداقية وزير الدفاع الأمريكي، فلهذا التصريح أكثر من مغزى، خصوصًا للبلدان التي تشكو من هيمنة القوى العظمى على بلدانها، لكن بعد تجربة الاستقلال يتبين العكس، ويتضح أن مشكلة الاستقلال، لبعض البلدان على الأقل، تتفوق على مشكلة الاستعمار. وبالطبع لا يوجد أدنى إيحاء لضرورة الاستعمار! وإنما واقع الحال يخبرنا بحقائق لا تسعفنا بها الشعارات التجريدية.

فعلى الرغم من هذه الإمبراطورية الأمنية العراقية المخيفة، لا زالت الكثير من التحديات الداخلية تظهر عجزًا ملحوظًا عن الكيفية المناسبة للقضاء على التوترات الداخلية. وما يحدث في ميسان دليل ملموس على هذه الإخفاقات. حتى أن بعض المسؤولين، نوري المالكي مثلًا، يعتقدون بأن الجهات المسؤولة عن العنف في هذه المحافظة معلومة للكثير من المسؤولين في الحكومة العراقية. لذلك، وبعد استفحال أعمال العنف والتطاحن بين الفصائل التابعة للأحزاب يسارع المسؤولون لعقد الجلسات وإرسال الوجهاء ورجال الدين لعقد الصلح، كما لو أن قضايا الأمن الحساسة تدار بالترضيات والمصالحات. والمسؤولون قبل غيرهم يعلمون علم اليقين أن القضية أكبر من ذلك بكثير في محافظات الجنوب. ويعلمون كذلك أن منطق الدولة يستدعي تفعيل القانون وسيادة العدل لا أن نختزل هذه الإشكالية الكبرى إلى جلسة صلح على الطريقة العشائرية.

إن أقصى ما يحاول المسؤولون السيطرة عليه هو إعلان البراءة من أتباعهم ما لم ينصاعوا إلى منطق العقل، مثلما شاهدناه من تصريحات أمين عام حركة "عصائب أهل الحق" الشيخ قيس الخزعلي، وزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر. كما لو أن أمن الجنوب يتوقف على تلك التصريحات. والجميع يعلم أن الوضع الأمني في هذه المنطقة المتوترة لا يستتب عبر التراضي والمصالحة وإعلان البراءة مالم تقف الحكومة العراقية وقفة جادة للقضاء على تجارة المخدرات التي تفتك بالتدريج بالمجتمع العراقي. والأغرب من ذلك تقف الحكومة العراقية عاجزة عن بسط الأمن في محافظات الجنوب بعد الخسائر التي منيت بها هناك وآخرها اغتيال القاضي المختص بقضايا المخدرات في محافظة ميسان من قبل مسلحين مجهولين.

ثمة إشكالية عويصة مسكوت عنها وملغاة تمامًا من قاموس السياسة العراقية، وأعني بها قوة العشيرة وهيمنتها باعتبارها قوة موازية للدولة. وهذا يؤكد ما كتبناه سابقًا عبر عدة مقالات، أن العشيرة في العراق تعتبر سلطة رابعة مضافة للسطات الثلاث. وحتى هذه اللحظة تقف المؤسسة الأمنية عاجزة تمامًا عن مجابهة هذه السلطة، فتضطر إلى ترحيل المشكلة عبر الترقيعات المعهودة، والتصريحات المفرغة من معناها؛ إذ بعد كل نزاع مسلح بين العشائر تعبر الحكومة عن جديتها في فتح ملفات التحقيق، ومحاسبة الجناة، وبسط الأمن، ويبقى السؤال المسكوت عنه: لماذا لا يوضع حد لتمرد العشائر؟ لا جواب مقنع لحد الآن. أكثر من ذلك، حتى الفصائل المسلحة ذات الشراسة القتالية المعروفة لا يمكنها أن تهدد سلطة العشيرة، وتتمتع بعلاقات صحية مع أغلب العشائر.

 الوضع الأمني في هذه المنطقة المتوترة لا يستتب عبر التراضي والمصالحة وإعلان البراءة ما لم تقف الحكومة العراقية وقفة جادة 

بل رأينا تصريح رئيس مجلس القضاء الأعلى الذي توعّد بالقبض على الجناة ومحاسبتهم، حتى أن الرجل أعلن عن مكافأة مجزية لكل من يدلي بمعلومات عن المجرمين، لكن التصريح يتوقف عند هذه العتبة فقط، بينما تبقى سلطة العشيرة تعلن هيمنتها متى ما تشاء. ليس هذا فحسب، بل تعمد العشيرة قبل البدء بمعاركها الطاحنة بإرسال تحذيرات تهيب بـ"المواطنين" عدم التقرب من مكان المعركة لتحاشي الإصابات! كل هذا يحدث أمام مرأى ومسمع القوات الأمنية دون أن يرمش لها جفن. وربما ينتمي الكثير من رجال الأمن إلى هذه العشيرة أو تلك مما يغريهم بالوقوف إلى جانب عشائرهم: فالمرتبات التي يتقاضاها هؤلاء تكون من واجب الدولة، أما الولاء فهو للعشيرة أو للمذهب. يظهر مما تقدم أننا سنشهد مستقبلًا تعريفًا جديدًا للاستقلال سنعثر عليه في معجم العشيرة وهو الولاء للعشيرة أولًا وآخرًا، أما الدولة فهذا مفهوم يتم استحضاره لأغراض الدعاية السياسية حين يخسر أهل السلطة نفوذهم السياسي.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الكاظمي يعلن فتح تحقيق بعمليات الاغتيال في ميسان ويتوعد المقصرين

القضاء العراقي يتعامل كخصم مع "السلاح المتخفي" لأول مرة: قناعة جديدة أم "ثأر"؟