لا زالت الدولة العراقية تعاني من مشاكل بنوية عديدة، وأبرزها صعوبة العثور على تعريف واضح ومحدد للهوية الاقتصادية، فيما ظلت السمات والخصائص المميزة للاقتصاد في العراق، لا تخرج عن دائرة الدول الريعية التي تعتمد اعتمادًا شبه كلي على اقتصاد النفط.
لا يجد الخبراء أي توصيف دقيق للنظام الاقتصادي في العراق
ويتأثر اقتصاد العراق بظروف العرض والطلب، ومن ثمّ تقلّبات الأسعار التي تحددها هذه الأسواق، فيما انحسرت كل عمليات التنمية المستدامة بهذا المورد الوحيد، وتحول فيما بعد إلى دخل ريعي صرف وصندوق ضخم لتدفق الرواتب الحكومية، حيث فشلت كل الحكومات العراقية في تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد تنموي، بحسب خبراء.
"اقتصاد الفوضى"
ولا يجد الباحث الاقتصادي أ.د عماد عبد اللطيف أي هوية محددة للاقتصاد العراقي، فضلًا عن توصيف دقيق للنظام الاقتصادي في البلاد.
ويقول عبد اللطيف لـ"ألترا عراق"، إنه "ليس نظام اقتصاد السوق، وهو ليس نظامًا اشتراكيًا، كما أنه ليس نظامًا مختلطًا من هذين النظامين، بل هو خليط من هذه الأنظمة كلّها".
أمّا الملامح العامة له، فهو "اقتصاد ريعي غير منتج يُعاني من اختلال هيكلي حاد، وفقًا لعبد اللطيف الذي أوضح أنّ "أساس الريع هو عائد صادرات النفط الخام. وبدونها سينهار الاقتصاد العراقي تمامًا، ما لم يتم تنويع الاقتصاد، ومصادر توليد الدخل والناتج".
وبالنسبة لبعد اللطيف، فإنّ توقيت هذا الانهيار ، هو ذاته توقيت انهيار العائدات النفطية، وفقدان النفط الخام لأهميته الحالية في الاقتصاد العالمي.
ويرى عبد اللطيف أنّ "دور النفط لن يتراجع في الاقتصاد للسنوات العشر القادمة، مضيفًا "ويمكن استخدام العائدات النفطية كمصدر رئيس لتمويل الاستثمارات في تطوير القطاعات غير النفطية".
وقدّم الكثير من الاقتصاديين العراقيين الكثير من البحوث والدراسات، وشارك بعضهم في إعداد خطط تنمية وطنية متعاقبة، لكن عبد اللطيف أكد "إهمالها، ولم يؤخذ بها أحد".
وبحسب عبد اللطيف، فإنّ "معظم مساهمات الاقتصاديين العراقيين تتمحور حول تنويع الاقتصاد الوطني، وتفعيل دور القطاع الخاص في الاقتصاد، والتأسيس لشراكته مع القطاع العام، والعمل بقواعد صارمة للانضباط المالي، وخلق بيئة مواتية ومستدامة للعمل والاستقرار الاقتصادي".
أما النموذج الأفضل والأصلح للاقتصاد العراقي، هو ما اسماه عبد اللطيف "اقتصاد السوق الاجتماعي، حيث يعني ذلك "وجود دولة قوية وقطاع خاص قوي في الوقت ذاته".
وأشار عبد اللطيف إلى وجود "كلفة اجتماعية للتنمية ينبغي على الدولة أن تقلّل من عبئها على الفئات الهشّة من السكان. ويعني ذلك وجود مؤسسات قادرة على تجاوز مرحلة انتقالية صعبة وشائكة، من اقتصاد الفوضى الحالي إلى اقتصاد منتج ومتنوع ومستدام".
عدوى المرض الهولندي
ويعاني الاقتصاد العراقي من أزمة بنيوية حقيقية في ظل أجواء تتسم بعدم اليقين، مصحوبة بقرارات شعبوية فوضوية، كما يشخص ذلك الأكاديمي والباحث الاقتصادي د. أحمد الهذّال.
ويقول الهذال لـ"ألترا عراق"، إنّ "الاقتصاد العراقي كان ولا زال يعاني من الاختلالات الهيكلية ضمن الناتج المحلي الإجمالي وهو مرآة عاكسة لقوة اقتصاد أي بلد، مبينًا أنّ "النفط يسيطر على مجمل نشاطات الناتج المحلي الإجمالي، وبنسبة 68% ويشكل 98% من الإيرادات النفطية".
وولّد ذلك بحسب الهذال ما يسمي بـ"المرض الهولندي نسبة إلى ما تعرضت إليه هولندا بفعل الغاز الطبيعي المكتشف آنذاك، الذي أدى إلى تراخي بقية قطاعات الاقتصاد التي تولد القيمة المضافة ضمن الناتج المحلي الإجمالي، وهذا بالضبط ما أصاب الاقتصاد العراقي".
ويضرب الهذال مثالًا بـ"قفزة أسعار النفط إبان حقبة السبعينيات من القرن الماضي، حيث كانت هناك دوافع قوية للإنتاجية لتحقيق معدلات نمو مستدامة، وما يفيض عن الإنتاجية يتم تصديره، وهذا ما كوّن احتياطيات من العملة الأجنبية ساهمت بنقلة نوعية للبنى التحتية في الاقتصاد، مستدركًا "لكن الحروب والعبث الذي مارسه نظام سلطة البعث حمّل الاقتصاد التكاليف الباهظة الثمن والمستمرة لغاية الآن".
رأى خبراء أن هناك تخبط واضح في القرارات الاقتصادية لأنها تدرس سياسيًا حسب الاتفاق وليس حسب مفاهيم التكلفة
وقدر صندوق النقد الدولي ديون العراق في العام 2003 نحو 300% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا ما دفع وفقًا للهذال إلى "تشكيل فريق لمفاوضة دائني العراق في نادي باريس، حيث خفضت بنسبة 80% تنتهي آخر دفعة منها عام 2028، أما بالنسبة للكويت فقد انتهت بحلول عام 2023".
ويرى الهذال أنّ هذه "الديون أخرت التنمية الاقتصادية في العراق، فضلًا عن الآثار السياسية على الاقتصاد والموازنة العامة، وتعد الأكثر تأثيرًا حسب مؤشرات الاقتصاد السياسي ومدركات الفساد، إذ بلغ ترتيب العراق بين الدول 168 من 172 دولة، ودرجته 18 وكلما انخفضت ووصلت إلى الصفر دل على أن البلد فاسد جدًا".
وليس هناك من يتوقع صمود الاقتصاد بفعل التغيرات المفاجئة لأسعار النفط، ويعلّل الهذال ذلك لأنه "سلعة غير طبيعية مثل باقي السلع، فيتأثر بعوامل خارجة عن نطاق الاقتصاد مثلاً سياسية وعسكرية".
ولفت الهذال إلى أنّ "هناك تخبط واضح في القرارات الاقتصادية لأنها تدرس سياسيًا حسب الاتفاق وليس حسب مفاهيم التكلفة/ العائد في الاقتصاد، مجددًا تأكيده على أنّ "الاتفاق السياسي هو السائد في تمويل المشاريع، وتسيطر الأحزاب على كل مفاتيح الأبواب التي تساهم في تنمية القطاعات الاقتصادية وتنتشل هذا الواقع المرير".
ويؤكد الهذال بأنّ ارتباط السياسة بالاقتصاد لا يمكن تجاهله في العراق، وذلك من ناحية "تأثيراته السلبية التي تضرر الاقتصاد والمجتمع بسببها، وهذا ما تفسره نظرية دورة الموازنة السياسية، فقد خلق السياسيون ما يسمى بالوهم المالي من خلال ارتفاع العجز"، حيث حدد قانون الإدارة المالية بأن لا تتجاوز نسبة العجز 3% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن الهذال يشخّص "مخالفة السياسيين لهذا القانون مرارًا من أجل تمويل مشاريعهم الانتخابية وبطرق شتى بوصول هذه النسبة إلى 18%!".
رأى خبراء أن سياسيي العراق يمولون مشاريعهم الانتخابية عبر الموازنة
ولا يعتقد الهذال بوجود فلسفة اقتصادية "تنفع مع هذه الطبقة السياسية، إلا إذ فكرت بضرورة تغيير الواقع عن طريق استخدام الكفاءة في الإنفاق، مبينًا "كل الدول لديها نظام تسير عليه، وقد تكون قد دمجت بين الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية لتتحول إلى نظام رأس المال الاجتماعي".