حين دخلت اليوم إلى البيت، بدأت كما أفعل عادة بسرد تفاصيل يومي الشاق والممل على أمي، بدأت بسيارات الأجرة المزدحمة والضيقة، وأنهيت كلامي بخبر مقتل "صالح". قالت أمي، أي صالح؟ قلت، علي عبد الله صالح، الرئيس اليمني السابق، قتله الحوثيون اليوم.
ربع قرن من الدكتاتورية طوعت الشعوب العربية على شكل معين من النظام والسلوك، شكل عابر للخوف من البطش
أمي البعيدة عن السياسة وتعقيداتها، لم تفكر بإيران ولا السعادة، غير مهتمة على الإطلاق بمفردة الـ"دكتاتور"، كما لا تثق بوسائل الإعلام إطلاقًا، هي تسمع عن الدم الذي يسيل في اليمن، وتكرر دومًا: هذا ما يريده أعداء الإسلام، لكنها في اللحظة التي عرفت بمقتل صالح، تألقت عيناها، واكتفت بالتعليق بكلمتين فقط "خبر مؤسف".
اقرأ/ي أيضًا: سيِّدُ القوارِض العجوز
خلال دقيقة أو اثنتين استغرقتها لامتصاص الصدمة بالصمت، بدأت أشرح كيف أن هذا الرجل فتن اليمن مرتين، في الأولى حين انقلب على النظام المنتخب بعد خلعه، وفي الثانية حين انقلب على حلفائه الحوثيين لصالح المحور الخليجي، حاولت أن أوضح مدى تورطه بدم اليمنيين وكم الخراب الذي جلبه لبلاده، لكنها لم تكترث قالت بشكل مقتضب مرة أخرى: هو آخر الحكام الذين نعرفهم.
من هم الحكام الذين تعرفهم أمي؟
منذ انتهاء فترة الانتداب في المنطقة العربية، ساد الوجه العسكري على حكامها، وبعد عدة تغييرات متسارعة في الحكم تأرجح وصفها بين الثورة والإنقلاب استقر الحكم لدى مجموعة احتكرت السلطة لأكثر من 25 سنة، حتى سقط الدكتاتور الأول، وتبعه الآخرون بعد ذلك بسبع سنوات (يستثنى من ذلك بوتفليقة وما تبقى من حكم الأسد).
ربع قرن من الدكتاتورية طوعت الشعوب العربية هذه على شكل معين من النظام والسلوك، شكل عابر للخوف من البطش، أشبه بالتنويم المغناطيسي لكن بواقعية أكبر، ربما كلمة "تدجين" تناسب المعنى هنا، فبعد سقوط أسوار الحضيرة الدكتاتورية شعرت الشعوب بالضياع، وكان عليها أن تخوض معارك وجودها مجددًا، عن طريق إعادة تعريف بـ"الفعل" لمفهوم الدولة والهوية والمواطنة.
إعادة التعريف
يمكن الآن رؤية أصابع الاتهام تتقافز على ضفتي اليمن المنكوب مرة نحو السعودية وتحالفها ومرة نحو إيران، أصابع الاتهام نفسها تقافزت في العراق وسوريا وليبيا وإلى حد ما في مصر، مع اختلاف طفيف بالتفاصيل. لكن لوردات الدمار كانوا في اليمن يمنيين، وفي العراق عراقيين، وفي سوريا سوريين، وفي ليبيا ليبيين، وفي مصر مصريين.
نُقلت سلطة الدكتاتور الباطش الأوحد، إلى قادة صغار حجمًا ومضمونًا وشيوخ دين وشيوخ عشائر
وهذا لا يُبرئ الدول التي ساهمت بتأجيج الخراب بأي شكل من الاشكال، لكنه يخلق مساحة من الشفقة لهذه الشعوب التائهة، الشعوب التي أعادت تدوير هوياتها الوطنية إلى طائفية وقومية ودينية، وأعادت ترسيم أراضيها إلى أقاليم ومقاطعات، ونقلت سلطة الدكتاتور الباطش الأوحد، إلى قادة صغار حجمًا ومضمونًا وشيوخ دين وشيوخ عشائر، ربحوا المناقصة وقادوا جمهرة من المتعطشين للهداية إلى دويلاتهم وحروبهم.
اقرأ/ي أيضًا: الحوثيون والكلاب
لم تعد العقيدة بالقوة التي تدفع الرجال إلى هذه الرعونة نحو القتل فعلًا ومصيًرا، لكن المعارك الداخلية التي خاضها سكان البلد الواحد في اليمن وغيرها، شهدت وصفًا ثابتًا دومًا "اشتباكات عنيفة أو طاحنة"، وكان يجدر بهذا الوصف أن يؤدي إلى قضية ما، لها أسسها وقواعدها وأهدافها ورؤاها المستقبلية، قضية تستحق الموت ليعيش الأولاد حين تنتصر، ويبني الأولاد في هامش نصرها السلام والازدهار والتقدم. لكن القضية كانت غائبة في المطحنة البشرية، غائبة لدرجة أن الآلاف من المقاتلين على جميع الجبهات ومختلف التوجهات جهلوا غاية الحرب، وأجابوا عن أسبابها بشعارات متهالكة يعرفون في أعماق أنفسهم أنها هراء، كانت القضية قضية وجود، وكان الإنسان العربي بعد ربع قرن أو أكثر من الدكتاتورية يقاتل في غابته، في سنوات مريرة من التيه الكبير.
اقرأ/ي أيضًا: