يسمع جيلنا كثيرًا من الجيل الذي سبقه عن حقبة السبعينيات، بما فيها من رفاه اقتصادي واستقرار سياسي، وكيف كان العراق يسير نحو دولة مؤسسات وسيّدة في محيطها، فضلًا عن الرقي الفني والأدبي الذي جعل العراق مقروءًا ومسموعًا في المنطقة العربية، وبالرغم من أن هذه الحقبة كانت على الأقل، جزءًا من النتائج التراكمية التي رافقت أيام حكم صدام حسين وما بعده، خاصة في التفكير بمحاكمة الجذور لا النتائج. لكنّها الفترة الأثيرة والمذهلة بالنسبة للآباء والأجداد، البسطاء بالضرورة، الذين ليس لهم علاقة بمعرفة جذور الانحطاط ومآلاته السياسية والاجتماعية، أنهم مثل كل الناس، يبحثون عن حياة آمنة وحسب.
كان النظام العراقي من أسوأ أشكال الديمقراطية الحديثة في العالم، التوافقية، وتطبيقها في العراق كان وفقًا لتضاريس الهويات الفرعية، مذهبية وقومية وعشائرية
أفكّر كثيرًا في جيلنا، نحن الذين ولدنا في زمن الاستبداد، وكبرنا مع الاحتلال وكيف أن رؤوس هذا النظام السياسي، معظمهم كانوا مع الاحتلال جملةً وتفصيلا، وجاءوا معه إلى العراق. ثمّ بعد خروج الاحتلال عشنا الفوضى السياسية بأبشع أشكالها التعبيرية قصورًا وفسادًا ولا مبالاة. ماذا سنقول للجيل الذي ينتظر منّا أن نزوّده عن شبابنا، الذي يريدون معرفة ما جرى في بلاده بأيامنا، هل سألتم أنفسكم هذا السؤال؟
اقرأ/ي أيضًا: سوق "المحاصصة الأمريكية" في بلادنا
في الأمس، وبعد سماع تهديد قائد عمليات البصرة للمتظاهرين وللصحفيين الذين يغطون التظاهرات، فاجئني هذا السؤال الذي يحمل أجوبة مرعبة ومخجلة في ذات الوقت. إننا كنا في منطقة يوجد فيها السيسي ومحمد بن سلمان وبشار الأسد وكل أيقونات الاستبداد العربي، وكان نظامنا "شبه ديمقراطي" بين هذه الأنظمة، عسكرية وملكية، النظام الذي من المفترض أن نفخر به لأسباب تتعلّق بآليات الانتخاب وتوزيع السلطات.. الخ، فضلًا عن إمكانية أن يكون امتدادًا لنماذج ديمقراطية مهمة في المنطقة. لكن نظامنا "الديمقراطي" هذا، كان من أسوأ أشكال الديمقراطية الحديثة في العالم، التوافقية، وتطبيقها في العراق كان وفقًا لتضاريس الهويات الفرعية، مذهبية وقومية وعشائرية، والتي أتاحت بدورها الفساد الطائفي ومبدأ الجماعة التي تريد أن تأخذ ما تلحق عليه من (الثروة) دون الشعور أو الاهتمام بـ"المصلحة العامة" للدولة ومستقبلها، داخليًا وخارجيًا.
كانت "الديمقراطية"، من أكبر الإنجازات التي روج لها الأميركيون بعد غزو العراق حين اتضحت كذبة أسلحة الدمار الشامل، قالوا: نحن جئنا بالديمقراطية على كل حال. بمعنى، لينسى العالم أسلحة الدمار الشامل وانشغاله بالحديث عنها لفترات طويلة، وينظر بإعجاب من جديد للتجربة الديمقراطية في الشرق الأوسط التي تجلّت في العراق. لكن أعوامًا ستمضي، وبغض النظر عن الحرب الطائفية وتحويل مؤسسات الدولة إلى عقارات باسم الطوائف وظهور التنافس الانتخابي الديمقراطي على شكل حفلات للاصطفاف الطائفي والعشائري، سيقتل الكثير من المتظاهرين في المناطق الغربية، وسيقتل كامل شياع وهادي المهدي في بغداد، وستهشم رؤوس 16 متظاهرًا في احتجاجات 2016، وسيختنق الآلاف من قنابل الغاز والرصاص الحي فوق الرؤوس، ثم جاءت البصرة التي برهنت للعالم نجاح الديمقراطية الأمريكية في العراق.
الكثير من العراقيين استغربوا من الكلام الذي قاله قائد عمليات البصرة، بمنصبه و"رمزيته "كرجل عسكري له أهمية كبيرة في النظام، ويخرج بانفعال ويقول للصحفيين الذين يغطون الاحتجاجات: "التوقيف موجود لمن يغطي تظاهرات غير مرخصة" كان يعني به السجن الذي سيطال بالضرورة أي مواطن يتظاهر أيضًا. كان الاستغراب مثلًا أن المادة 38 في الدستور تتيح للمواطن أن يتظاهر ويقول ما يشاء وقائد عمليات البصرة يخالف هذه المادة. لكنهم تناسوا أن النظام السياسي وأحزابه في العراق لم يطبقوا من الدستور العراقي سوى كلمة "التوازن بين المكوّنات"، والتي يتحاربون فيها على المناصب طوال مسيرتهم السياسية، ولم يتعاملوا مع كلمة "التوازن" بطريقة وطنية، إنما بهذه الطرق الطائفية التي قالت عنها سياسية معروفة مرّة، إنها تطالب بأن يكون القتل عادلًا بين المكونات، بمعنى حين يقتلون 7 من الشيعة، لا بدّ أن يقتلوا 7 من السنة، وبهذا سيتحقق "التوازن".
وفي الحقيقة أن التعبير الأكثر صدقًا عن مسار النظام السياسي في العراق، هو تهديد قائد عمليات البصرة للمتظاهرين والصحفيين، بالوقت الذي قتلت عشيرة في بغداد ابن لواء في وزارة الداخلية، وأحرقت منزله مع منازل جيرانه. كانت الحكومة العراقية ديمقراطية مع معارك العشائر ولا تسألهم أبدًا عن الأسلحة الثقيلة التي يتحاربون بها، الحرب في المدن وبين الآمنين في مناطق الجنوب لأكثر من عشرة أيام، وجهة نظر يجب أن تحترم!.
كانت الاحتجاجات التي بدأت في مطلع تموز/يوليو 2018 شاهدة على "ديمقراطية" النظام، والتي تعرّض فيها متظاهرون إلى الخطف من قبل جهات مسلحة مجهولة أقدمت على اغتيالهم. كان واحدًا منهم الشهيد علي عباس، وهو متظاهر من سكنة مركز مدينة البصرة، تم تعذيبه واغتياله من قبل جهة مجهولة كالعادة. وجد عباس مرميًا على ضفاف شط العرب ونقل إلى المشفى، فيما ظهرت على جسده بقع زرقاء تدل على تعرّضه للتعذيب، فضلًا عن كسور في يديه. وهذا مثال بسيط ومؤلم عن التحالف الذي حصل بين السلطة والميليشيات حين شعروا أن النظام تعرّض إلى خطرٍ ما. وقتها، شكّل أحد رؤوس الحشد الشعبي في البصرة قوة ضاربة تساند القوات الأمنية في حماية "الممتلكات العامة"، وقال عند تشكيلها بعد حرق القنصلية الإيرانية "سنلاحق أذناب أمريكا ولا أمان لهم بعد اليوم"، ليحوّل مطالب الحقوق والآثار التي نجم عنها تسمّم مئة ألف مواطن بصري جرّاء التلوّث إلى جزء من الصراع الأمريكي الإيراني.
الحكومة العراقية ديمقراطية مع معارك العشائر ولا تسألهم أبدًا عن الأسلحة الثقيلة التي يتحاربون بها، الحرب في المدن وبين الآمنين وجهة نظر يجب أن تحترم!
لم يكن كلام قائد عمليات البصرة وتهديده للمتظاهرين ووسائل الإعلام، جديدًا على سلوك النظام السياسي الذي جاء مع الاحتلال. كان الكثير من أعمدة هذا النظام، معارضون للبعث ويتبجحون بهذه الميزة اليتيمة، لكننا سنقول للجيل الذي سيخلفنا، وللأمانة، إنهم عارضوا البعث الذي أسقطه الاحتلال الأمريكي فعلًا، لكنهم حكموا بعقليته وأسوأ، ولم يكونوا قتلة للذين لا يجدون ماءً للشرب فيتظاهرون عسى أن يروى ظمأهم، كانوا أيضًا لصوصًا وطائفيين وعشائريين باعوا مصلحة العراق إلى الخارج، وتعاملوا مع محيطهم في المنطقة على آليات التشابه الطائفي الذي تحوّل إلى ولاء سياسي فوضوي وغير محترم وفق تحالفات سياسية طبيعية. كان النظام صديقًا لإيران مثلًا، لكن الأخيرة تموّل الميليشيات فيه. تتعامل معه ومع الميليشيات كدلالة على احترامها للدولة العراقية وهيبتها ووجودها في محيطها العربي والإسلامي.
اقرأ/ي أيضًا: