كالعادة، المعترضون على تشريع قانون الانتخابات الجديد، ينطلقون من أفق ليس له أدنى صلة بالواقع. إنهم يتكلمون بمعزل عن أي قوة سياسية تترجم، بالعادة، معارضتهم. لا قوة سياسية موجودة على الأرض، ولا حاضنة شعبية تؤيد هذه القوة. والخلاصة: إننا نصارع طواحين الهواء. ويمكن القول إن "الشخصية المفهومية"، لمواقع التواصل الاجتماعي بشكل أخص، هي شخصية دون كيشوت بامتياز، لا تترجم فعاليتها السياسية على الواقع الملموس.
الممارسة السياسية تأتي عن طريق الاستحقاق الانتخابي وليس التطبيل
المهم في الأمر، عندما انسحب الصدريون من الحكومة وتركوا استحقاقهم الانتخابي، بعد أن حصلوا على أغلبية الناخبين في الانتخابات التشريعية الأخيرة، تنفس الخاسرون الصعداء وهيمنوا على البرلمان، وتفاصيل القصة معلومة للجميع، فطالما توجد أغلبية برلمانية -بعد انسحاب الصدريين طبعًا- تفرض هيمنتها في داخل السلطة التشريعية عن طريق الاصطفافات والتحالفات السياسية، فلها الحق في تشريع القوانين الملائمة لها، بوصفها قوة مهيمنة تمتلك كل أسباب التمكين السياسي، والاقتصادي، والعسكري، والثقافي. وبالطبع دائمًا ما تحضر الشرعية الدستورية بخصوص هذا الشأن.
ماذا يعني أننا، ومنذ سنين، نصرخ وننصح أخوتنا في هذا الوطن من حسم أمرهم، وتنظيم أنفسهم لكي يفوّتوا الفرصة لأي سلطة سياسية يمكنها أن تنفرد بالقرار السياسي لوحدها؟ جاءنا الجواب على شكل شتائم بذيئة، وأحكام مسبقة، وتخوين. ليس هذا فحسب، بل اتضح أنه لا مشروع سياسي هناك بقدر ما كانت مشاريع شخصية، وشعارات وهمية كان الغرض منها، عند البعض، هو الفوز بكعكة السلطة، فحدث في نهاية المطاف ما كنّا نخافه.
هل علينا بعد الآن أن نحزن على ما فات؟ كلا؛ فالممارسة السياسية تأتي عن طريق الاستحقاق الانتخابي وليس التطبيل، ولا تحسمها النزوعات الحزينة، ولا يغير النحيب والشكوى والعنتريات الفارغة شيئًا في المعادلة. علينا، منذ الآن، ألا نبالغ في تقدير الذات، هذا هو حجمنا: كائنات افتراضية لم تصل لمستوى المشروع السياسي بعد، وقد فضحتنا شعاراتنا، وحكمنا بالإعدام على التجربة الفتية قبل نضوجها، وساهمنا في تكريس اللا جدوى والعدمية بين صفوف الناس.
ولكي نعرف حجم الوهم الذي كنّا غاطسين فيه حد النخاع فإليكم هذه القصة الطريفة: بعد تصفية احتجاجات تشرين وفقد الكثير من الشباب أرواحهم، حدثت في هذه الأثناء انعطافة خطيرة تستحق النظر والتحليل، وهي سقوط بعض "الثوريين" في شراك السلطة. هؤلاء أنفسهم من ساهموا في "تلطيخ سمعتنا" بوصفنا "صدريين"، وانتصارًا للحقيقة وجب عليهم محاربتنا والتهكم علينا، وكان بعضهم يشتمنا علنًا بأوصاف بذيئة بكل ما يحمله الفجور بالخصومة من معنى.
كانت بعض صفحات "فيسبوك" تحتفل برعاية هذه الجمل "المنطقية": "فلان صدري"، وكان الكثير لا يعرفنا شخصيًا، و لم يقرأ لنا حرفًا، لكنه ظل مخلصًا لسلوكه القطيعي، ولا بأس أن يكتب منشورًا إنشائيًا فيما بعد يذم فيه القطيع.معظم هذه القطعان الحزينة ذهبت إلى مكانها الخاص كأي زوائد نتخلص منها على الفور ونضعها في كيسها المناسب. لكن كان الثمن باهظًا وهو أرواح عشرات الشباب المساكين الذين ذهبت دمائهم في ذمة المجهول.
شخصيًا لست مستغربًا من النتائج، فقد نبّهتُ أكثر من مرة حول مصير هؤلاء المريبين، وأنه سيتسلل بعضهم –وبالخصوص من كانوا يشتموننا- إلى السلطة، ونبهت أيضًا على أن هؤلاء مجرد فقاعة ينبغي ألا يأخذون من اهتمامنا الكثير إلا بوصفنا متعاطفين معهم نظرًا لسلطة الجهل المهيمنة عليهم.يعتقد كثيرون أن استعداء أي تنظيم حزبي ديني عبر الصراخ والتهكم يمكن أن يجدي نفعًا في سياق العراق السياسي
لو استدعينا أي آلهة ستجيب على الفور: لا جدوى! لا جدوى من متهورين رهنوا مصير المشروع السياسي المأمول بالغطرسة والعدوانية. متهورون كانوا يعتقدون أنهم في باريس، ويمكنهم استعداء أي تنظيم ديني عن طريق الصراخ والتهكم والاستهتار بمصائر الناس.
قلنا لهم إنكم بهذا تقضون على التجربة في مهدها. قالوا لنا إنكم مهادنون ومجاملون. كانوا يعتقدون أن ميدان السياسية لا يختلف عن أي نزاع عشائري بين قبيلتين. تركوا ما نكتب، تركوا كل المناشدات، وتمسكوا بحفنة من المشاهير الأغبياء الذين صنعتهم الميديا. سألت أحدهم ذات يوم: هل قرأت ما أكتب؟ أجاب بالنفي. قلت: لماذا إذًا "ردحت مع الردّاحين"؟ قال: سمعت ذلك! هذا الشخص نفسه كان يحلو له أن يكون مميزًا ويكتب عن معاناته وسط القطيع. حين ترهن مستقبلك ومشروعك السياسي بأيد حفنة من المتهورين فلا تلومنّ إلا نفسك.