قد تكون ظاهرة بشرية. ليس بوسعنا دراسة نماذج العالم. لكنها، على الأقل في عالمنا العربي، ظاهرة محسوسة ومُنتشرة بشكلٍ كبير، وتأخذ أشكالًا مؤسفة، إنها حالة تقسيم الرجال والمواقف والنظم والجماعات إلى فُسْطاط حق وفُسْطاط باطل. ربما الاستبداد، وفقدان النموذج، والفترات الطويلة من البروباغاندا وانعدام الشفافية، وثقافة الكذب والتلفيق، والفشل في التحديث والانفصال عن العالم المتطور، أسباب أدت إلى هذه النتيجة المؤسفة.
تقسيم الرجال والمواقف والنظم والجماعات إلى فُسْطاط حق وفُسْطاط باطل في عالمنا العربي ظاهرة محسوسة ومُنتشرة بشكلٍ كبير، وتأخذ أشكالًا مؤسفة
تمر ذكرى 14 تموز في كل عام، لتخلق هذه الحالة، ليس على مستوى عامة الناس، بل على مستوى النخب والمثقفين والسياسيين وأصحاب الرأي. تبدأ من الاختلاف حول تعريفها كـ انقلاب/ثورة رغم الطريقة الواضحة التي استخدمت في تغيير النظام، ولا تنتهي بنسف كل ما أنجزه وفشل به كل من العهد الملكي، ونظام عبد الكريم قاسم.
اقرأ/ي أيضًا: 8 شباط 1963.. بيان عبد الكريم قاسم الذي لم يسمعه العراقيون
تَغيب عن ذهن من يَرَون بالعهد الملكي فسطاط باطل تام، أن رجالات ذلك العهد لم يحكموا دولة راسخة ذات مؤسسات عريقة، رغم تاريخ العراق الضارب بالقِدِم، إلا أنه لم يُعرف كـ"National State"، بل عاش 800 عام احتلالات متتالية منذ سقوط الدولة العباسية. لقد شهدنا حالة الانهيار بعد 2003 ما إن حُلت بعض مؤسسات الدولة، فكيف ببقعة جغرافية خالية من المؤسسات الوطنية، فكان على النظام أن يقوم هو ببناء الجيش، الشرطة، والقضاء .. إلخ، من الصفر. فضلًا عن بناء هوية وطنية قُطرية لشعب متعدد المذاهب والأديان والأعراق والقوميات. إنها ليست بالعملية البسيطة.
استطاع النظام الملكي، مستغلًا بعض الظروف والمصالح الدولية، الشروع ببناء الدولة، وتأسيس نظام ديمقراطي ناشئ، وضم ولاية الموصل، وتثبيت الحدود، وتشكيل مجلس إعمار، وانتزاع استقلال دون قتال، عبر الانضمام إلى ما كان يُعرف بـ"عصبة الأمم"، رغم أن أعدائه لا يرونه استقلالًا تامًا. وتخبرنا التجربة العربية التالية، والحالية، أنه لا يختلف كثيرًا عن بقية أنواع الاستقلال.
في نفس السياق، لا يرى "الملكيون" مساوئ النظام الملكي، كمشكلة الإقطاع وتردي أوضاع الفلاحين مثلًا، واللجوء لقمع المعارضين والأحزاب وغلق الصحف في آخر سنوات الحكم. كما يؤخذ بعين الاعتبار، نظرة الشارع آنذاك للاتفاقيات التي وقعها النظام، مثل معاهدة بورتسموث مع الإنجليز، بغض النظر عن رأي الباحثين بها.
كنّا في حفلٍ تأبيني في ذات الذكرى قبل سنوات، وأثناء إلقاء كلمة ذكرنا أن النظام في العهد الملكي وصل إلى مرحلة الانسداد، مع بقية القوى السياسية، والانفصال عن مشاعر وهموم وتطلعات الناس، وكذلك الانقطاع عن دور ريادي يتناسب مع حجم العراق في القضايا العربية، في ظل صعود قومي على المستويين: الشعبي والرسمي. تزامن مع وصول "الضباط الأحرار" إلى مصر وإعلان الجمهورية، ونكبة 48 وتغول الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. ونعتقد أن النظام الملكي ـ وفق الخصوصية العراقية عن الخليج ـ أصبح يواجه عاصفة تغييرية شبه حتمية، بعبد الكريم قاسم أو بغيره. وتكشف بعض المرويات عن رئيس الوزراء الأهم في العهد الملكي، نوري السعيد، أنه كان يُدرك جيدًا قُرب النهاية، ويتمنى أن تتأخر قليلًا ليتسنى له إكمال بعض المشروعات.
كان ردُ حفيد أحد الشخصيات المهمة في ذلك النظام، هو إن: "مقاومة الحرس الملكي للجيش المنقلب كانت كفيلة ببقاء الحكم الملكي حتى هذه اللحظة"!
حالة الانقسام بين فسطاط حق وفسطاط باطل، تحديدًا في مجال السياسة، تخلق في أجوائها النفاق، فيضطر المؤيد لصناعة حجج مزيفة، وغض الطرف عن مشكلاتٍ فيمن يؤيده
تَغيب عن ذهن "الجمهوريين" معاصرة العهد الملكي لحربين عالميتين وبدايةً لحرب باردة بين قوتين عظميين، وتراجع الدور البريطاني ـ الحليف الأكبر للعراق ـ في المنطقة. كما لا يرى أنصار قاسم الفرق بين تعامل الضباط المصريين مع الملك فاروق، وبين ما حدث من مجزرة في قصر الرحاب عشية 14 تموز 1958. وإن اعترف بعضهم بالفرق، ووحشية ما حصل، حمّلوا الضابط العبوسي مسؤولية الجريمة بتصرفٍ الفردي!.
اقرأ/ي أيضًا: السلالات السياسية في العراق
لا يرى أنصار الملكية سعي قاسم نحو سيادة الدولة، ومحاولته لبناء دولة قطرية وطنية تعتمد على نفسها، والاهتمام بالفقراء النازحين من المحافظات الجنوبية جراء تدهور الوضع الزراعي في مناطقهم، وبناء المشروعات الخدمية والبنى التحتية. كما لا يؤكدون على نزاهته، التي باتت الآن سمةً نادرة مع رؤيتنا للفساد المستشري في الطبقة السياسية بعد 2003.
لا بد من بعض الملاحظات الضرورية، ربما احتوت السطور أعلاه لغةَ تعميمٍ عن أنصار العهدين؛ لكننا نتناول الحديث الغالب والحُجج الدارجة التي يطرحها المؤيدون والمعارضون. كما أننا لسنا بصدد نقد شامل للعهدين؛ بل الإشارة لنقاط مضيئة ومُظلمة هنا وهناك، تدعم ما نهدف إليه في هذا الموضوع.
لا ندعو لمغادرة التاريخ تمامًا، بل لعدم استخدامه لإنشاء فرق منقسمة انقسامًا حادًا، لا تُضفي على الحاضر أي تقدمٍ فكري ثقافي، فضلًا عن العملي. ويمكننا في قراءة التاريخ أن نحكم على النتائج بغض النظر عن النوايا، ونتخذ مواقف "مع وضد"، بعد أن نأخذ جميع سياقات الحدث، لنحدد بوصلتنا الحالية.
يقول كارل ماركس إن "الرجال قد يصنعون التاريخ؛ لكنهم مقيدون بالمعطيات الموجودة على أرض الواقع، والتحولات التاريخية التي لا يمكنهم أن يقفوا أمامها".
وفق كل ذلك، ونتائج العهدين، والنظر إلى مآل الانقلابات العربية السابقة والحالية، أستطيع أن أٌقول "إني من المؤيدين للعقلية التي حكمت في العهد الملكي"، دون أن أنكر مساوئه، وحسنات من جاء بعده، بخيرٍ تام، وشرٍ تام.
إن حالة الانقسام بين فسطاط حق وفسطاط باطل، تحديدًا في مجال السياسة، تخلق في أجوائها النفاق، فيضطر المؤيد لصناعة حجج مزيفة، وغض الطرف عن مشكلاتٍ فيمن يؤيده. إذ تخلق طريقة الفسطاطين حالة نفسية تُبعد عن الذهن ما يُمكن أن يعتبر سلبيًا في هذا الطرف، وإيجابيًا في الطرف المقابل. وكأننا بقول الإمام الشافعي: "عينُ الرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ .. ولكن عين السُخط تُبدي المساويا".
نحن في الوطن العربي، وحتى نمضي نحو أنظمة ديمقراطية تحترم شعوبها، علينا أن ننتهي من قراءة التأريخ ـ السياسي على الأقل ـ بمنطق الخير المُطلق والشر المُطلق
نحن في الوطن العربي، بحاجةٍ إلى مُغادرة ثقافة الجبهات، ومعسكرات الحق والباطل. وحتى نمضي نحو أنظمة ديمقراطية تحترم شعوبها، علينا أن ننتهي من قراءة التأريخ ـ السياسي على الأقل ـ بمنطق الخير المُطلق والشر المُطلق. فمثل هذه الثقافات تتُيح للاستبداد أن يُهيمن "ثقافيًا" على شريحة كبيرة من الناس، ولتجار الدين في أن يستخدموه للوصول إلى مصالح حزبية وشخصية، وللعسكر في أن يفرضوا وجهة نظرهم على كل القوى السياسية التي ترى بضرورة إصلاح الأنظمة، والتداول السلمي للسلطة.
اقرأ/ي أيضًا: