في الأول من تشرين الأول/أكتوبر، عادت ساحة التحرير إلى المشهد السياسي، عبر الاحتجاجات مرة أخرى، احتجاجات تمت الدعوة لها، من قبل شباب عراقيين، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، موسومة بـ"هاشتاج" (نازل آخذ حقي)، لم يعلنوا عن أنفسهم، وليسوا من النخب الثقافية أو الإعلامية، أو من المعروفين بوسط النشاط المدني، ممن اعتدنا على رؤيتهم كقادة ومنسقين للاحتجاجات، جاءت التظاهرات الأخيرة بشكل مغاير للسابق، عفوية، غاضبة، كسرت الركود في الأروقة السياسية العراقية.
من منصات النخبة إلى الأزقة الشعبية
بالرغم من التشكيك الذي جوبهت به احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر الأخيرة، بحجة عدم وجود قيادة معلنة، تؤدي دور التنسيق والتوجيه، إلا أن ذلك شكل نقطة قوة، وحالة من التمييز الذي ألقى بضلاله على زخمها، وتأثيرها، فلم تشهد هذه الاحتجاجات، صراعات شخصية بين قيادتها، ومنسقيها، لأنها خلت من وجود منصات الصدارة، التي يمكن التصارع عليها، كذلك لم يبرز جدل التوجهات الفكرية، حول الدين والعلمانية، فشعبية الاحتجاج، ذات الطابع الجماعي، لم تفسح المجال أمام أي جدل من هذا النوع، كالذي حصل في الاحتجاجات السابقة.
نحن أمام شباب يمارسون الإيثار بالنفس من أجل حقوق مواطنتهم، لا من أجل قضايا طوائفهم، كما كان يحصل في السابق
شعبية الاحتجاج، وواقعية الشعارات، بالنظر لتعلقها بالحقوق، فسح المجال أمام تضامن الشارع معها وبفعل تأثير معاناة الأزقة التي انطلقت منها، كما أنها فتحت الأبواب واسعة أمام المشترك الوطني، الحقوق فقط.
احتجاجات الجماعة المواطنة
المواطنة، الهوية الوطنية، وتزاحم الهويات الفرعية للمكونات، من أهم الإشكاليات التي نالت بعض النصيب من حوارات النخب الثقافية، كتابات، وحوارات تناولتها وكانت تبحث عن السبيل لبلوغ حالة التحول من انتماء المكون أو الطائفة، إلى انتماء المواطنة، وكثيرًا ما كان الحديث عن طول الطريق لبلوغ هذا المراد، وكثرة المعوقات التي تحول دون بلوغه. ما حصل في الاحتجاجات الأخيرة، مثَّل حالة من التحول المهم، وعبر عن قطع وعي الفرد العراقي شوطًا نحو شعوره بمواطنته، فالحقوق الأساسية، وتقديسها، كانت المحفز الأساسي لهذا التحول، فنحن أمام شباب يمارسون الإيثار بالنفس من أجل حقوق مواطنتهم، لا من أجل قضايا دينهم، أو طائفتهم، كما كان يحصل في السابق، شباب يرفعون شعار "نريد وطن"، فسلب الحقوق بالنسبة لهم، هو سلب للوطن، نتحدث عن شباب يصدرون خطابًا يرتفع سقف مطلبه إلى حد المطالبة بالوطن، شاب يقول لم أعد انتظر وظيفة، أو خدمات، "أنا أريد وطن". وآخر يتحدث عن أزمة فقدان الوطن أكثر من حديثه عن حاجاته المفقودة، يأس كبير، معرض عن أي أمل في التغيير والإصلاح يمكن أن تقوم به الأحزاب الماسكة بالسلطة، يوازي هذا اليأس إرادة صلبة، وإصرار عبروا عنه بصدور تواجه رصاص القمع وتأبى التراجع والاستسلام.
اقرأ/ي أيضًا: شباب العراق يعزلون عزلته
ما يجعل الحديث عن المحتجين كجماعة مواطِنة مناسبًا وحقيقيًا، كون هذه الجماعة لم يجمعها أي تنسيق، أو قيادة، ولا رابطة عقائدية أو فكرية، سوى ألم فقدان الحقوق، وهو ما يمثل لهم فقدان الوطن، نتحدث عن مناطق شعبية تحتج رافعة ذات الشعار الذي يرفعه محتجو ساحة التحرير وباقي المحافظات العراقية. احتجاجات القلب الواحد والمطلب المشترك الذي يكسر الانقسام الذي يريده النظام العراقي في تعاطيه مع الجماعات العراقية وفق التضاريس المكوناتية التي يفرضها.
التضامن، كان روحًا لهذه الجماعة، شهدنا تضامنًا حتى ممن لم يخرجوا للتظاهرات، مواكب الزيارة تقدم خدماتها لهم، تضامن بعض الكوادر الطبية في المستشفيات مع جرحى الاحتجاجات رغم علمهم برفض السلطات الحكومية لذلك، شهدنا تفاعل الشارع، بلغ إلى حد دعوات الأمهات بالنصر، وكأن الشباب المحتج يخوض معركة مصيرية.
والآن، على النخب السياسية والثقافية، أن تحرك ركود أذهانها، بعد أن قام الشارع بتحريك المشهد الراكد، فهم أمام مسؤولية كبيرة، تضطرهم لقراءة هذه اللحظة التاريخية، بهدف خلق إطار تنظيمي يحافظ على مكتسبات الاحتجاج، وجني ثمار هذه المرحلة، هذا يتطلب، نقدًا، وتقييمًا للذات، وإعادة لهيكلة ذهنية النخب العراقية، بما يمكنها من قراءة الواقع، ومعرفة الأولويات، وركن القضايا الهامشية جانبًا. وإلا فما جدوى التركيز على تجزئة المحتجين إلى فئات، (عطوانية) و(جيل البوبجي) وغيرها من التوصيفات التي قدمت على أنها رد فعل على حفلات الجلد التي مورست بحق هذا الجيل، إلا أنها تمثل جلدًا من نوع آخر، وتعبّر عن عجز بعض المدونين والكتاب، مغادرة تأثير الصور الذهنية السابقة وحلقات تأثيرها الضيقة.
اقرأ/ي أيضًا: