حينما يُوارى جثمان زوجها في التراب تكون الزوجة قد أعلنت حدادها الأبدي؛ إنّها " عدّة" على الطريقة العراقية ذات الصبغة العشائرية، التي تعلن فيها الموت الرمزي للأرملة، وتغدو حياتها محسوبة بطريقة رياضية دقيقة؛ يصعب عليها الخروج من باب الدار، لا يحق لها ممارسة حياتها الاعتيادية، وتُحصى أنفاسها بدقّة، ويتحول البيت إلى قبر كبير تُواري فيه "سوأتها"، فلم تعد "وليّة أمر نفسها" كما ينصّ الشرع، بل "روبوت" يقوم "بالأشغال العامّة"، وتُسَجّل ملكيته لأحد ذويها. للعشيرة قولها الفصل، ولـ"شريعتها" الصارمة التي لا ترحم فصل الكلام، ولا يحق لأي شريعة دينية التدخل في التصحيح؛ فإذا كانت عدّة الزوجة أربعة أشهر وعشرة أيامٍ في الشريعة الإسلامية، والتي تجيز للأرملة أن تكون حرّة في اختيار زوجها القادم، إن شاءت الارتباط بعد نهاية العدّة، تقف الأعراف الاجتماعية المستبدّة كحَجر عثرة بالضد من تطلعاتها، فتحيل حياتها إلى كابوس مطبق.
لا يحق للأرملة ممارسة حياتها الاعتيادية في العراق وتحصى أنفاسها بدقة فيما يتحول البيت إلى قبر كبير تتوارى فيه
نحن لا نتكلم عن استثناءٍ هنا ونقطةٍ مضيئةٍ هناك، أو وجود بعض الأرامل ممّن اخترنَ التخلّي عن الارتباط مُجَدّدًا بمحض إرادتهنَّ، بل نتكلّم عن ثقافِة بلد عُرِفَ منذ بعيد بمخياله الشعبيّ وأعرافه العشائرية ونظرته الدونية تجاه المرأة، ويظهر استبداده ضد أي تغيير، وخصوصًا القضايا التي تخصّ المرأة وما يتعلّق بتعليمها ووظيفتها، وبالأخص الأرملة أو المطلقة، وماذا يعني أن تكون هناك أرملة في بيت أحدهم!. المصيبة الكبرى، إن الكلام هنا ينحصر بالأرامل الشابات، فأرامل الجيل الأول من الحرب العراقية الإيرانية ذَوَت أعمارهنَّ بين الأعراف الجائرة، والحسرات على زوٍج آخر يعوّضها ألمَ الفقدان، وينتشلها من وحدتها المميتة. لكنّ أرامل الجيل الأول ربما كانت أحوالهن المعيشية والنفسية أفضل بكثير مقارنةً بالحاضر؛ ذلك أن الحكومة السابقة قامت بتعويضهنّ بشقق سكنية، ولا زالت تلك المجمّعات السكنية شاخصةً حتى الآن، فبهذا التعويض استطعنَ المضي في حياتهنَ عبر التمكين الاقتصادي الذي وفرته الحكومة آنذاك. الكلام هنا عن الجيل الثاني من الأرامل اللّاتي لم يتجاوزنَ العقد الرابع من أعمارهنَ: جيل شهداء المقاومة الوطنية ضد الغزو الأمريكي، وضحايا العنف الطائفي.
اقرأ/ي أيضًا: أرامل العراق.. أرقام عالية ومعاناة مضاعفة
إذ تشير الإحصائيات الصادرة من جهاتٍ حكوميةٍ ومنظماتٍ مختصة إلى أن العراق شَهِدَ زيادة ملحوظة في عدد الأرامل والأيتام والمطلقات نتيجة الأعمال الإرهابية والعسكرية التي شهدتها سنوات الغزو الأمريكي وصولًا إلى أعمال العنف الطائفي. وتذكر الإحصاءات أن نساء بين 15و20 عامًا ترملَن ولم يمضِ على زواجهن بضعة شهور، وبعضهنّ أمهات لأطفال صغار. وقد أكدت بعض التقارير أن "الحرب ضد تنظيم "داعش" رفعت نسبة الأرامل والأيتام بسبب ارتفاع عدد القتلى من القوات الأمنية ومن المدنيين وقد حذرت منظمات دولية من أن يتحول العراق إلى بلد الأرامل والأيتام، بالرغم من تضارب التقارير حول عددهم الفعلي فإن هناك إجماعًا على ضرورة مواجهة هذه المشكلة التي تفوق خطورتها على المجتمع العراقي التأثيرات المباشرة للحرب".
تبدأ الكارثة الاجتماعية حينما نعلم، أن الغالبية العظمى من الأرامل تنحدر من أسر فقيرة، وكما هو معلوم، أن أغلب الزوجات يقطنَّ في بيوت أزواجهنَّ، وأغلب هذه الأسر الفقيرة تتكدس في بيوت ضيّقة تسكنها أسرتين على الأقل. في مدينة الصدر، على سبيل المثال، لا تتجاوز مساحة البيت 144متر مربع، وبعد الغزو الأمريكي انتشرت ظاهرة تقطيع البيوت، لتصل مساحة البيت المٌقتَطَع72 متر مربع، في هذه المساكن الموحشة يُوجد جيش الأرامل، في بيئةٍ اجتماعيةٍ كهذه تنتشر أشكال التنكيل بالأرامل بشكلٍ واضح. إذ لا يحق لها العمل، ولا إكمال التعليم، أو الخروج من البيت إلّا بصحبة ذويها. فحريّة العمل والتعليم للأرملة الشابّة على وجه الخصوص تغدو "عارًا" عشائريًّا في نظر "أهل الحل والعقد". بالطبع ثمّة فارق طبقي كبير في التعاطي مع هذه الظاهرة؛ في الطبقات الاجتماعية التي تحظى بتعليم جيّد ومستوى اقتصادي متوسط تختلف حياة الأرملة كليًا، ذلك إنها تتمتع بمساحة حرية إلى حد بعيد نظرًا للتمكين الاقتصاديّ الذي تحظى به. المصيبة الكبرى تكمن هنا وبالذات: المناطق الشعبية الفقيرة ذات التعداد السكاني الكبير دائمًا ما تكون حطبًا للحروب، وخزّانًا كبيرًا للشهداء والضحايا وكل صنوف العذاب البشريّ من دون أن يفتقدهم أحد، ورغم كلّ ذلك يجودون بحياتهم بأريحية مُحَبّبَة، أنهم مستعدون لتغييب وجودهم من أجل وجود الغير.
المفارقة الغريبة، أن غالبية "الساسة" الذين يتولون أمر البلاد، ينحدرون من أحزاب إسلامية، وأغلبيتهم يعتقدون بأسس المذهب الشيعيّ الذي يتّخذ من عليّ بن أبي طالٍب مثال يُحتذى. لكننا وعلى الصعيد العملي، كمتابعين، لا زلنا نبحث عن جوهر الديانة الحقيقية التي ينحدر منها هؤلاء، لكن دون جدوى؛ فقد هبّت غالبية السكان في الدفاع عن هؤلاء الساسة، وأُقيمت لهم مهرجانات انتخابية لم يحلموا فيها من قبلُ، وأعطى الشباب أرواحهم ثمنًا غاليًا في الذود عن تراب هذا الوطن، ولولا هذه التضحيات الجسام لكانت المنطقة الخضراء أثرًا بعد عين. بعد كل هذه القصص المروعة والخسائر الفادحة، يتمتع جماعة الخضراء مع أُسَرِهِم بلذيذ العيش وحلاوة الحياة، كما لو أن جيش الأرامل الذي تركوه خلفهم لا يعنيهم، ربما إذلال الأرملة بشيء من " العطاء الحقير" يريح ضمائرهم المشكوك فيها أصلًا.
ما من عائلة عراقية إلّا وكانت عبارة "الشهيد البطل" مكتوبة على خرقة سوداءَ في واجهة المنزل توثّق تاريخًا من الويلات والفجائع، فيما تقبع في دهاليز المنزل المظلمة أرملة شابّة تكابد الألم والمعاناة، تنتظر أحد القنوات التلفزيونية التابعة لأحد الأحزاب الإسلامية غالبًا، لتظهرها أمام المشاهدين بطريقة حقيرة ومُذلٍّة، فتسجّل هذه القناة "سبقًا صحفيًا" من خلال بعض الخردة التي تعطيها للأرملة، أو أحد الأجهزة الكهربائية الرخيصة، وتحرص هذه القنوات التهريجية على إظهار "البر والإحسان" بطرق مضحكة للغاية. وفي نهاية المطاف، وبعد نهاية فصل التهريج التلفزيوني، تتفوّه الأرملة بهذه العبارة من على الشاشة وهي مُنَكّسة الرأس: شكرًا للحكومة الموقّرة أو لهذا الحزب الكريم!.
ما من عائلة عراقية إلا وكانت عبارة "الشهيد البطل" مكتوبة على خرقة سوداء في واجهة المنزل توثق تاريخًا من الويلات والفجائع
نحتاج إلى حشد جبّار للاهتمام بهذه الظاهرة، تماثل قوّته حماس المقاتلين في جبهات القتال، ويكون على عاتقه إيجاد العلاجات اللازمة للأرامل من خلال دعم الزواج الجماعي. ولكي يكفّر جماعة الخضراء عن آثامهم الكثيرة، عليهم المطالبة بمؤسسة خاصة تعنى بشؤون الأرامل، وتضع البرامج اللازمة لتزويجهن، ورصد المبالغ اللازمة والحوافز المطلوبة للشباب لكي يقترنوا بالشابّات الأرامل، عبر تمليكهنَّ شقق سكنية لتشجّع الشاب الاقتران بأرملة تقاربه بالعمر، ويضمن من خلالها بيتًا يضمّه مع زوجته الجديدة، عسى أن تشرق الشمس وتحلّ الغبطة على كوكب الأرامل الحزين.
اقرأ/ي أيضًا:
العراق.. نمو سكاني يزيد أعداد الأرامل والأيتام
"مطلوب سكرتيرة".. فخ الشركات الوهمية للإيقاع بالفتيات في بغداد