في 28 تشرين الأول/أكتوبر 2019 أمطرتْ السماء في ساحة التحرير الساعة الثانية بعد الظهر تقريبًا، رافق سقوط الأمطار هجوم عنيف لقوّات فضّ الشغب على المتظاهرين، استخدمتْ خلاله العشرات من قنابل الدخان المُسيل للدموع والمزودة برذاذ الفلفل، والتي شكّلت أشبه بالغيمة الكبيرة في ساحة التحرير، وفيما كان مراسلًا يروي ردود الفعل حينها، فإنه استمع لمتظاهر يقول "الأمطار تحرق الوجوه، لقد اختلطتْ بالدخان؛ لم يتركوا لنا شيء، قتلوا الحياة وسمّموا حتى الأمطار بدخانهم"، وبهذا المشهد الساخن يُفتتح تقرير فريق "سيرجو دي ميلو" لمراقبة حقوق الإنسان والحرّيات.
في التظاهرات تم استعمال القنابل الدخانية بكافة أنواعها من مسيل للدموع إلى مزوّد برذاذ الفلفل الحار أو غاز الأعصاب إلى الصوتي
هذا الانتهاك الصارخ لحقوق العراقيين في التظاهر السلمي، حتّم أن يكون هناك رد يقلّل من خطورته، ويوقف هذا الموت المجاني للعراقيين، تمثل الردّ بعفوية وبلا تخطيط بتشكيل فرقًا لمكافحة الدخّانيات والقنابل المسيلة. والتي أظهرت دورًا منقطع النظير في التصدّي للقنابل المسيلة للدموع والدخانيات.
اقرأ/ي أيضًا: الاعتصام وسط الدخّان.. كيف اشتد "عوده الطري" في مواجهة السلطة؟
أشكال وأنواع
تم استعمال القنابل الدخانية بكافة أنواعها من مسيل للدموع إلى مزوّد برذاذ الفلفل الحار، أو غاز الأعصاب إلى الصوتي فقط، والناظر لمقاطع الفيديو التي تغص بها منصّات التواصل الاجتماعي يجد قصدية القتل في رمي القنابل، لا التفريق وفض التجمعّات؛ حيث يركّز عناصر فض الشغب بقذف القنابل على أجساد المتظاهرين، وتحديدًا منطقة الصدر والرأس في مشهد يؤكّد هولوكوست جديد، لكن هذه المرّة كان على الطريقة الإيرانية وحطبها الشباب العراقي.
الإصابات
من أهم إصابات التعرّض لهذه للقنابل المحظورة الاستعمال دوليًا، والتي وصفتها منظمة العفو الدولي بـ"المخترقة للجماجم"، التهيّج وفقدان الوعي الجزئي والكلي والعمى المؤقت، أو فقدان العين، أو أي عضو آخر، والاختناق، لنصل لطرقٍ جديدة ومبتكرة يموت بها العراقيون: مات متسمّمًا بالغاز، مات بحالة اختناق، مات بقنبلة اخترقت رأسه، وهذا ما دفع الناشط الأمريكي جون فيلسون لإطلاق حملة تضامن على الشوشيال ميديا (تحدّي عبوة الصودا) .
الأدوات المستخدمة
يذكر تقرير "سيرجو دي ميلو"، أن التواجد في أجواء كهذه وظروف يتطلّب تجهيزات ضخمة حيث "يبلغ سعر تجهيزات الحماية الشخصية الكاملة من القنابل الدخانية والشظايا الناجمة عن انفجار القنابل الصوتية أو المطاطية 550 دولارًا بالحد الأدنى لكل فرد تشكّل خوذة مُضادة للشظايا، وقنابل الدخان وقناع فعّال مُضاد للغازات والدخان ودرع صدري مزوّد بسبيكة ضد الرصاص"، هذه المعلومة تثير الضحك كثيرًا؛ إذ لو كان العراقي يمتلك هذه الــ550 دولارًا لما فكّر في التظاهر والاحتجاج. الشباب في العراق خرجوا عراة الصدور يمسكون العلم العراقي فقط وعبوة ماء عند العطش. أدوات فرقة مكافحة المسيل كانت بسيطة جدًا تمثلت بعبوات البيبسي كولا، والخميرة والإسطوانات البلاستيكية، والقفازات المستهلكة، والبطانيات، والكمّامات، وكذلك الماء المتعادل لتنظيف العيون عند التهيّج أو العمى المؤقت.
صغار كبار
11، 12، 13، 14، 15، 16، هذه ليستْ أرقامًا، هذه أعمار من ينتمون لهذه القوّات (قوّات مكافحة المسيل والدخانيات). قاصرون ومراهقون تجمعهم قتالية البوبجي، وضياع "خواكين فينيكس" في فلم الجوكر الأخير، يستقتلون في مكافحة القنابل والدخانيات دون ورود لمفردة الخطر أو الخوف في معجمهم الحياتي. بعفوية ومصداقية تامة يجتمعون سويّة مُنظَّمي الأدوار ليلًا ونهارًا، الأول ينبّه للقنبلة المقذوفة الثاني يستقبلها ويحملها راكضًا بها، ليرميها في نصف الإسطوانة البلاستكية المملوءة بالبيبسي الأخير ثم يضع البطانيات المنقعة بالماء والخميرة عليها، وبينما أحدهم يجلس عليها رافعًا يديه مشيرًا لعلامة النصر، تتعالى أصوات المتجمهرين حولهم "أبطال.. أبطال.. أبطال".
الفن بالاستهزاء بالصمود
يتضمّن التعامل مع الدخّانيات الكثير من الفن حيث يرتدي أبطال مكافحة الدخانيات عبوات مسيلة فارغة كإكسسوارات، كذلك يعلّقون لافتات على صدورهم مكتوب عليها "مسيل الدموع عطر الأبطال"، والكثير من العبارات التهكّمية على الجدران. كما يمارسون كرة القدم، يتخلّص من الدخانية ويعود لإكمال كرة القدم، هكذا بكل ببساطة، وقد يتفنّن الكثير منهم عندما يقوم باللعب بعبوة المسيل التي لم تنفجر بعد بالركض بها، وركلها بقدمه على طريقة نجمه المفضل (دبل كك)، ووصل الأمر بالبعض إلى وضع القنبلة في فمه والتفاخر بمسكها بين أسنانه والدوران بها بين جمع المتظاهرين، وقد يقوم البعض بمسكها ثم الركض مباشرة باتجاه الجهة المقذوفة منها ليرجعها على قوات فض الشغب في تحدّ واضح للرصاص المطاطي والرصاص الحي والقنابل المسيلة للدماء لا الدموع التي قد تخترق إحداها رأسه في أية لحظة.
الدعم اللوجستي
كثيرًا ما يظهرون في بث مباشر وهم يقومون بأدوارهم القتالية، وقد تصلهم إمدادات من بعض المتظاهرين المختصين لهذا الدور، حيث ترى تلك شابة بغدادية تتجول وسط أجواء من الموت والدخان والغاز السام ترتدي حقيبتها على ظهرها، وهي توزع عليهم عبوات البيبسي، أو الماء المتعادل، أو الخوذ أو الأقنعة المضادة للغاز، أو الكمّامات وسط مشهد ضخم واحتفاء عظيم يبديه أعضاء القوات الذين تحوّلت جلودهم وملابسهم وشعرهم إلى سواد في سواد؛ جرّاء مواجهتهم اليومية والمستمرة لهذا الكم الهائل من الدخان والسخام والغازات.
اقرأ/ي أيضًا:
تزوير شهادات وفاة ضحايا الاحتجاجات.. السلطة تستعين بـ"الملائكة"!