مساء الجمعة، الرابع من تشرين الأول/اكتوبر 2019، وصلت إلى مقر القناة الفضائية حيث أعمل، وكنت الوحيد الذي وصل من كادر التحرير بسبب إقدام القوات الأمنية على قطع الشوارع ومنع المرور في محاولة لتفكيك الاحتجاج المندلع منذ ثلاثة أيام، لكن محاولاتي الالتفافية نجحت بإقناع النقاط العسكرية، فوصلت. وأثناء التغطية التلفزيونية للأحداث كانت الاتصالات مستمرة مع الأصدقاء لمعرفة ما يجري في الشارع بعد قطع خدمة الإنترنت كإجراء مُضاف لقطع الشوارع يهدف إلى وقف تدفق المحتجين عبر الدعوات التحشيدية، وعدم تناقل أخبار القمع عبر التطبيقات الاجتماعية عقب محاولات إخراس الإعلام التقليدي. اتصلت بي صديقة وقالت إن الشباب يتعرضون لإطلاق نار من سلاح قنص، وطلبت أن أنشر هذا الخبر العاجل على الشاشة كبديل عن مواقع التواصل الخالية من الناس بسبب توقف خدمة الإنترنت. والحق، لم أصدق ما أخبرتني به بالنسبة التي تمكنني من نشر هذا العاجل وفي وقت حساس كهذا. أنهيت المكالمة وعدت إلى المدير العام الذي كان يعمل على جهاز "أو تو كيو" لسد النقص الحاصل جراء عدم تمكن أغلب الموظفين من الوصول إلى العمل، نقلت له الخبر فوقف صامتًا لبرهة، ثم بعد دقائق جاء اتصالٌ للقناة من جهة أمنية تطلب عاجلًا صريحًا هي الأخرى يُفيد بوجود قناصين يستهدفون المتظاهرين والقوات الأمنية على حد سواء. كان اتصالُ هذه الجهة بمثابة المنقذ لأمرر خبر انتشار القناصين على وجه السرعة دون أن أعرّض القناة والعاملين للخطر، خاصةً وأن أنباءَ هجومٍ على قنوات فضائية بدأت تتداول.
لم يُستخدم سلاح القنص اضطرارًا، ولم يختر هدفًا بشريًا لتحقيق هدف عسكري، بل كان كل الشباب المتظاهرون أهدافًا له
إذن، نزل ضيفٌ جديدٌ على ساحة التظاهرات سيلتصق اسمه بهذا النظام طويلًا. قناص، أو عدة قناصين يعتلون أسطح بنايات من أماكن تواجد القوات الأمنية، ويصوبون أسلحتهم نحو الشباب القادم من شارع فلسطين باتجاه ساحة التحرير. شبابٌ يرفعون الأعلام العراقية والرايات الدينية فيُقابلهم أجبن رجال الأرض بأخس طريقة يُمكن التعامل بها مع العزّل.
اقرأ/ي أيضًا: شباب العراق يعزلون عزلته
حصد القناصون الرؤوس وفتحوا الصدور والبطون في الشوارع. صوبوا من الأمام، ومن جهة اليسار الجانبي لناحية المحكمة في شارع وزارة الداخلية! حتى بات الهرب مستحيلًا. وثّقت عدسات التصوير حالة الرعب التي زرعها عديمو الشرف في الشوارع التي نُدبت بأجساد المتظاهرين، لا هُم قادرون على تكملة المسير نحو التحرير، ولا العودة إلى الخلف. لم يترك المجرمون للمحتجين السائرين فرصةً سوى الاعتماد على الحظ في أن يختار القناص شابًا آخر بناءً على وجهة نظره في أين يوجه رصاصاته.
تُرادف كلمة قنص أو قناص صيد واصطياد، لكن الأولى تستخدم في الإشارة إلى مطلقي النار على أهداف دقيقة وبعيدة بواسطة أسلحة نوعية. ولاستخدام سلاح القنص دلالتان: وجود "عدو" مهم ينبغي تصفيته، من قاتل محترف لا بد أن "يتخفّى". فأسلوب القنص كما يصفه المتخصصون يُستخدم لاغتيال عدو مرة أخرى، و"مهم"، ومن شخص متخفٍ ينفذ عمليته بعد أن يخضع لدورات تدريبية خاصة. ومن هذه الإشارات يُمكننا التأمل بعقلية من استخدم هذا الأسلوب في قتل المحتجين، فَهُم أعداءٌ بالنسبة له بالدرجة الأولى؛ لكن عامل الأهمية فقد أهميته في هذا الحدث بعدم وجود قائد أو محرّك للمتظاهرين، بالتالي توجّه النيران الغادرة لا على التعيين، حتى أن بعض المختبئين خلف الجدران الكونكريتية لم يسلموا من غدر القناصين، فضلًا عن المندفعين إلى الأمام. ومن النقطة الأولى يُمكن التأمل بحجم العداء الذي يكنّه القناصون ومن أرسلهم لهؤلاء الشباب، حيث لم يُستخدم سلاح القنص اضطرارًا، ولم يختر هدفًا بشريًا لتحقيق هدف عسكري، بل كان كل الشباب المتظاهرون أهدافًا له. ثم تأتي النقطة الثانية (التخفّي) لتبرّز حجم الجبن والخوف لدى هؤلاء المسلحين.
منذ ذلك الوقت وصار أسم حكومة عادل عبد المهدي "حكومة القناصين". كُتب هذا الأسم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والمقالات وصار عنوانًا لجريدة تكتك التشرينية، وأصبح كابوسًا يُلاحق أعضاء هذه الحكومة ومواليها، حتى اضطر وزير الدفاع آنذاك أن يُمرِر تصريحًا يتهم فيه "طرفًا ثالثًا" بقنص الشباب، ليُضاف مصطلح الطرف الثالث إلى جانب مفردة قناص، فتكتمل الصورة في الأذهان والأقلام.. والتأريخ. ذلك التأريخ الذي لا أظن أنه سيرحم فئةً تقتل شبابًا لا يُشكلون خطرًا محدقًا بأمن البلاد ولا يرفعون السلاح، بسلاحٍ لا يُستخدم إلا في معارك نوعية. لكن العار لا يقتصر على من وجّه وأطلق النيران فحسب، بل سيبقى ملازمًا لهذه النظام الذي لن ينظف من براثن أعماله ولو توضأ بمياه الجنة.
نجح القناصون بإرجاع الشباب إلى الخلف قليلًا فُهُم رغم شجاعتهم لم يجدوا طائلًا من الدخول في معركة مع مسلح مختبئ كأعضاء المافيات؛ فيما لا يمتلكون سلاحًا سوى علمًا عراقيًا وهاتفًا محمولًا. لكنهم لن يتمكنوا فيما بعد من ردع التظاهرات ووأدها كما خططوا، بل زادوا بإجرامهم غضب الناس وتعاطفهم.
وأخيرًا، فأن حكومةً لا تقتص من قتلةٍ بهذا النوع من الخسّة والإجرام والجبن، وتقدمهم إلى العدالة، لا خير فيها، ولا أمل منها، ولا تمثل المتظاهرين ولا الشعب الذي وقف خلفهم.
اقرأ/ي أيضًا: