"السلطة المطلقة مفسدة مطلقة"، يعرف العراقيون تمامًا ما تعنيه هذه العبارة شديدة البلاغة والإيجاز، فقد عاشوا ما يقرب من أربعة عقود تحت ظل سلطة صدام حسين المطلقة، وعرفوا تمامًا كل مساوئ ومصائب تلك السلطة، لكنهم منذ أكثر من عقد ونصف، يعيشون تحت ظل مفسدة مطلقة، تديرها سلطة متهالكة، لا هيبة لها ولا قوة. المرحلة الانتقالية بين الدكتاتورية والديمقراطية الناجزة استمرت أكثر من عقد نصف من الفساد، حول الحلم إلى كابوس، والأمل إلى مأساة.
إذا كان العنف هو وسيلة الدكتاتور في الدفاع عن سلطته والبقاء فيها، فإن حكامنا اليوم يجعلون من الفساد أهم وأقوى وسائل الدفاع عن سلطتهم
لا تكتمل صورة الطاغية من دون شعب طائع وضعيف، بغض النظر عن الكيفية التي تكون عليهما الطاعة والضعف، هل هما نتيجة خوف وخنوع، أم قناعة وقبول، وليس مهمًا أيضًا، كيف تكون الوسائل التي توصله لهدفه الأسمى هذا، لكن سيرة الطغاة تتحدث عن أن ذلك الهدف لا يتحقق من دون احتقار القانون والحرية، فهما العقبة الكبرى أمام غاية الطغاة، لذلك لا يحتقر الطاغية شيئًا بقدر احتقاره للقانون وللحرية، فالقانون يحمي البشر من الظلم، والحرية تحميهم من الضعف.
اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى القوى الشيعية.. دعوة لركوب الموجة!
هل يحترم ساسة ما بعد الدكتاتورية القانون والحرية؟ غالبًا ما تقترن كلمة الفساد في ذهن العراقيين بسرقة المال العام والتجاوز عليه، والإثراء على حسابه، لكنها في معناها الأوسع، أكبر من ذلك بكثير، فهي تتعلق بأي سلوك حكومي يتجاوز فيه المسؤول أو الموظف العمومي حدود القانون بغض النظر عما يتركه ذلك من أثر على وضعه المالي أو المهني.
إذا كان العنف هو وسيلة الدكتاتور في الدفاع عن سلطته والبقاء فيها، فإن حكامنا اليوم يجعلون من الفساد أهم وأقوى وسائل الدفاع عن سلطتهم، لا يخيف الحاكم الفاسد سوى "النزاهة" فهي تصيبه في مقتل، ولأن القانون هو سيد النزاهة وحاميها كان أول ضحايا الفساد. هل يتشابه الدكتاتور والديمقراطي الفاسد في احتقار القانون؟ هذا ما نشهده اليوم ونعيش تفاصيله وندفع أثمانه الباهظة.
القانون تحول إلى مسخرة في كلا النظامين، فماذا بشأن الطاعة التي يبحث عنها حكامنا اليوم؟
ما يهم هذا النوع النادر من الحكام هو بقاء أهل طائفتهم ضمن "القلعة الطائفية"، ولبنان والعراق أكثر الحالات قدرة على التمثيل. نعرف جميعنا كيف كان الخطاب الطائفي يتصاعد من فم الساسة كالقيح، يسممون المجتمع في كل لحظة بالمزيد من الكراهية، لا يخجلون من استخدام المناسبات السياسية أو الأحداث الإرهابية الدموية كوسائل دعاية طائفية تضع المزيد من الأحجار في قلعة الطائفة، هل كان غريبًا استخدام صدام حسين عنوان "القلعة الحصينة" لروايته؟ قلعة صدام شخصية وقلعتهم طائفية، هم يعرفون أن الخوف يولد الطاعة، وكلما زادت مساحة الأعداء زادت مساحة الخوف، لذلك كان الإرهاب يحمي السلطة ويقوي من فرص بقاءها وهو أحد دعاماتها.
لنتذكر أنه في خمس تجارب انتخابية كانوا يحرصون تمام الحرص على التكتلات الطائفية، هذا لأن الخطاب الطائفي يعلي من فرصهم في التسلط والتحكم، ويقدمون أنفسهم كحماة للطائفة، هم يرفضون "المواطنة" وينبذونها كمفهوم وسلوك، لأنها المثال الأبرز للحرية ولسلطة القانون، الجميع أحرار ومتساوين أمام القانون، وهذا بحد ذاته يضرب أساس تقاسم السلطة واحتكارها وتوزيعها على "الطوائف"، كان النقد الموجه للسلطة يقابل في الكثير من الأحيان بالاعتراض، كم مرة سمعنا "مو وكتها"، خصوصًا مع احتجاجات عام 2011 و2015؟
ما يجري في ساحات الاحتجاج هو بالضبط ما كان يرعب السلطة منذ 2003، وهو أن يتحول نقدها والاعتراض عليها إلى ممارسة على الأرض
لماذا حل وقتها الآن؟ ما يجري اليوم في ساحات الاحتجاج هو بالضبط ما كان يرعب السلطة منذ 2003، وهو أن يتحول نقدها والاعتراض عليها إلى ممارسة على الأرض، وليس بكلمات تقال في الفضاء العام أو في وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي، هذا الفعل على الأرض جاء بعد عامين على تحرير الموصل، 10 كانون الأول/ديسمبر 2017، وبعد عام واحد على ولادة حكومة عبد المهدي، قدمت خلاله النموذج الأكمل لسوء الأداء الحكومي في كل النواحي وخاصة في مجال مكافحة الفساد.
اقرأ/ي أيضًا: هل سيرضى العراقيون بالقليل من حكومة علاوي؟
لم يتأخر مطلع تشرين الأول/أكتوبر كثيرًا، فقد أعطت الناس للحكومة الزمن الكافي لتفعل شيئًا، عامان بلا إرهاب، نهاية الأزمة المالية، انتخابات، حرية تشكيل الحكومة، صبر لا حدود له، كل فرص تقديم المنجز الحقيقي أتيحت للسلطة، لكنها انتكست وساء أداءها أكثر. فكان لا بد أن يحل تشرين لتقول الناس كفى.
اقرأ/ي أيضًا: