بدايةً، علينا أن نفهم ونعرف الإنسان كإنسان، بغض النظر عن صفته أب أو ابن أو أخ أو أخت، أو زوج.. الخ، وبداية البداية تكمن بأن الإنسان - في مجتمعاتنا- يرفض أن يُضرب من قِبل الأب حينما يكون طفلاً، ويؤيد الضرب ويستخدمه حينما يصبح هو ذاته أب! حالة ازدواجية مشابهة لحالة المظلوم الذي يكره الظالم؛ لكن حينما يكون مكانه؛ فهو يمارس كل ممارساته الظالمة!
حصانة القداسة
لم تكن قضية الطفل محمد عبد الله المُعذب من قبل والده، التي انتشرت على وسائل التواصل؛ قضية غريبة، بل هي قضية شائعة، مع اختلاف نسبي بحجم التعذيب، وناتجة من المنظومة القيمية المتكونة من ثلاثية: الفكر الديني، العادات والتقاليد، والتعليم الحكومي (المدرسة، الجامعة، الإعلام)، وكلها تعطي حق القداسة للأب وتعطيه المسوغات في أن يفعل الكثير بابنه (تعذيب، شتم، التحكم بمصيره، طرده من البيت، وغير ذلك الكثير)، وبذلك أعطته الحصانة من أي نقد أو اعتراض، مما شجعته على ارتكاب الكثير من الفظائع.
مجلس النواب يقف مع الأب ضد الابن المعذب (محمد عبد الله) نظرًا لمعارضة البرلمانيين الإسلاميين لتشريع قانون العنف الأسري
لننظر، ماذا حدث؟ ذلك الإنسان كان شابًا عاديًا، يتعرض لكل أشكال الإساءة مثله مثل كثير من الشباب، ومصادفةً أصبح مقدسًا، لا لشيء سوى لأنه تزوج وأنجب طفلًا؛ وأصبح يحق له أي يفعل ما يحلو له؛ أما الابن فلا يحق له الاعتراض؛ وإلا سيتم وصمه بوصم "الابن العاق"، وغير متربي، وكأن التربية أصبحت مرادفة للقبول بالإهانة والتعذيب والذل، الذي يُمارس من قِبل الآباء المقدسين!
جنبة تاريخية - دينية
لمسألة قداسة الأب؛ جذور تاريخية - دينية، تعود إلى آلاف السنين، منذ أن تحولت الآلهة من الأمومة- نسبةً للأم- إلى الأبوة، وبذلك نشأ النظام الأبوي، فأصبح الأب إلهًا، وحاكمًا، وشيخ عشيرة، ورب أسرة، ويتميز بصلاحيات لا يمتلكها أحد (لمعرفة المزيد راجع كتاب نشأة النظام الأبوي للباحثة غيردا ليرنر)، سيما أن نصوص المرويات الدينية تصب بصالح الأب أكثر بكثير من الابن- كذلك قانون الدولة. كذلك أن هذه القداسة رسخها الحُكام، فهتلر مثلاً كان يستخدم صورة الأب الذهنية ونقل مفهوم الأب من البيت إلى إدارة الدولة، فهو الوحيد المسؤول، وهو الوحيد الذي له السمع والطاعة، وفي خطابه مع الأطفال يستخدم مفاهيم الأبوة (راجع كتاب صناعة الواقع.. الإعلام وضبط المجتمع، ص71 وما يليها، للباحث محمد علي فرح)، وحتى صدام حسين استخدم هذه الصورة الذهنية، كلاهما -وغيرهما- استخدما هذا الأسلوب للسيطرة على المجتمع، مُتكئين بذلك على الموروث.
جنبة سياسية
"مجلس النواب يقف مع الأب ضد الابن المعذب محمد عبد الله"، في ثنائية الـ(مع أم ضد)، فإن هذا هو العنوان الأدق لموقف النواب الإسلاميين الذين يعارضون تشريع قانون العنف الأسري، الذي يتعرّض له كثير من الأبناء والبنات والزوجات، وبذلك تكون كلمات الطفل محمد موجهة لهؤلاء النواب الذين كبلوه بالسلاسل، وصوروه، وشهروا به!
اقرأ/ي أيضًا: إحصائية بعدد حالات العنف الأسري خلال 3 أشهر: 1500 حالة في الرصافة فقط
هؤلاء النواب المتخلفون يزعمون بأن رفضهم لغرض الحفاظ على الأسرة من التفكك، والحفاظ على العادات والتقاليد (أي المنظومة بأكملها). ولا غريب في ذلك، فماذا ننتظر من شلة متخلفين جهلاء؟ وأي تفكّك أكثر من هذا؟ وأي منظومة عظيمة هذه؛ التي تجعل الكثير من الأبناء يكرهون عوائلهم ويهربون منها، وتجعل حالات الطلاق ذات نسب مهولة، وتجعل العراق الأكثر فسادًا وحزنًا وتوترًا نفسيًا في العالم، وتجعله مُنتجًا للجماعات الإرهابية المسلحة، وغيرها من المساوئ والشرور؟ وهم يقرون بهذا، ورغم ذلك، يصرون على الحفاظ على هذه المنظومة، التي من المفترض أن يُغيّر الكثير بها! إلا أنهم يريدون بقاء كل هذه المساوئ والشرور والمظالم، لأنها تطيل عمر بقائهم بالسلطة!
مسوّغات ما قبل التعنيف
كل شيء يبدأ بفكرة ومعلومة، وبداية كارثة كهذه؛ بدأت بمنظومة تربوية بشعة، تقول: "لا يمكن تربيتهم بدون الضرب والتعذيب"، وتقول: "نحن نضربهم لأننا نريد مصلحتهم"، وتقول: "إن ضرب الأطفال يصنع منهم رجالاً"، عزيزي القارئ طابق هذه العبارة مع عبارة "مجتمع جبان وجاهل"، وغيرها من الأفكار والمعلومات التي تدل على جهل مركب وغباء وسلوكيات حيوانية مختبئة خلف عبارات زائفة، ولأن الجهل والغباء يسيطران على الحيز الأكبر من العقول، وحين يُقلب هؤلاء بمحتواهم العقلي؛ لا يجدون أي أساليب أو طرق للتربية سوى التعنيف؛ فيقولون: خلاص، إذن هذه هي الطريقة الوحيدة! فهم يجهلون طرق التربية المستندة على العلم والمعرفة الحديثة، ويرفضونها؛ ذلك لكسلهم في الاطلاع عليها (يمعود على شنو)، ولأنها لا تحقق عقدهم السادية في التعذيب، وتفريغ العقد النفسية في الطفل، بدعوى زائفة تقول: أنا أفعل ذلك لأجل مصلحته "لا بشرفك؟!".
حسب المزاج
بهكذا شكل تُرك الابن تحت سلطة مزاج الأب، فأن كان غاضب؛ يضرب أو يشتم ابنه، وأن كان متشاجرًا بالعمل. كذلك يعود للبيت ليفرغ غضبه بابنه/أو زوجته، وأن كان حزينًا؛ كذلك يفرغ نار حزنه بابنه، بالتالي يصبح الابن الحلقة الأضعف، والتي يستفرغ بها الأب غضبه، لأنه لا يستطيع أن يفرغها بالمصدر الحقيقي (الأقوى منه) الذي سبب له الغضب!
الانتحار الشرعي
من المعلوم أن الانتحار حرام في الدين، حيث يكون مصير صاحبه؛ جهنم، وكأنه عقوبة الهروب من جهنم الدنيا؛ جهنم الآخرة! المهم، وبعض الشباب لكي ينتحر ويتجاوز هذه العقبة الدينية؛ ابتكر طريقة الانتحار الشرعي (حيلة شرعية)، أي الانضمام لجهات مسلحة - تخوض حربًا؛ لكي يقتل بصفته شهيد، وليس بصفته منتحر! شخصيًا وجدت هذه الحالة لدى عدة شباب، تكلموا بها معي، وكان أحد أهم الأسباب هو الخلاص من ظلم عوائلهم!
بعض الشباب ولأجل تجاوز عقبة الانتحار الدينية يقومون بالانضمام لجهات مسلّحة لكي يكونوا شهداء هربًا من ظلم عوائلهم
ختامًا: نحتاج أن نعرف طبيعة الإنسان (صغير أو كبير) لكي نعرف كيف نتعامل معه، لا أن نختصر الطرق ونستخدم طريقة التعذيب فقط، فننتج إنسانًا مشوهًا، لذلك نحتاج أن نقرأ [اقرأ يا بشر] . نحتاج تشريعات قانونية للحد من هذه الكوارث، ونحتاج من رجالات الدين أن يُصلحوا قليل من الكثير الذي أفسدوه بتعاليمهم العائدة لزمن الكهوف، فإن كان هناك بقايا شعور وعقل؛ فعليهم نشر المعرفة الحديثة في التربية، وترك ما سواها، وكذلك على المثقفين والمفكرين الاهتمام بهذا المجال، لأن من هنا يبدأ بناء الأمم، ورجالات العشائر عليهم أن يساهموا للحد من هذه الكوارث.
اقرأ/ي أيضًا: