لا يزال قانون قدسية النجف محط جدل واسع بين الكثير من الأوساط العراقية، والذي عاد طرحه بقوة بعد حادثة اعتقال الشاب النجفي الملقب بــ (علوش جرمانة) نتيجة لطعنه بشخصية أحد الأئمة، ما أدى الى اعتقاله على الفور واتهامه بشتى الاتهامات من بينها الانتماء للتنظيم الإرهابي "داعش"، فضلًا عن إجراءات تعسفية مورست بحقه من بينها حلق شعره وتصويره بشكل يعيد الى الاذهان ممارسات النظام السابق، ليتحول الحديث الى الإسراع بتطبيق قانون قدسية النجف سيء الصيت، بعد ثلاث تظاهرات اشترك فيها محافظ النجف لوئي الياسري، ورئيس ديوان الوقف الشيعي علاء الموسوي، وممثل المرجعية الدينية وبعض شيوخ العشائر.
لا يبدو قانون قدسية النجف مثيرًا للجدل والضحك في آن واحد لكونه صادر عن جهات أقل ما يقال عنها أنها السبب في كل ما يحصل اليوم، بل لأن أغلب نصوصه هي فعلًا موجودة في القانون العراقي
ويبدو أن السلطة التنفيذية في المحافظة لا تميز بين سب الرموز كردة فعل أو كنزق وبين السب كمنهجٍ متأصل في أيدولوجية بعض الجماعات الدينية الذين يتخذون من سب الخلفاء ورموز الطوائف الأخرى طقوسًا يومية يمارسوها مثل ما يمارسون الصلاة من قبيل ثائر الدراجي، وياسر الحبيب، وحسن الله ياري وغيرهم والذين يزاولون نشاطهم بالسب والطعن بالرموز في المراقد المقدسة وأمام الناس دون أي رادع قانوني او أي رد فعل من قبل الجهات المسؤولة!!! بل قد يحصل العكس تمامًا. فهؤلاء لا تشملهم المادة (372) من قانون العقوبات العراقي!.
لا يبدو قانون قدسية النجف مثيرًا للجدل والضحك في آن واحد لكونه صادر عن جهات أقل ما يقال عنها أنها السبب في كل ما يحصل اليوم، بل لأن أغلب نصوصه هي فعلًا موجودة في القانون العراقي كما لفت الى ذلك مختصون بالشأن القانوني فمنذ عام 1994 صدر عن مجلس قيادة الثورة المرقم (82) في البند (سابعا): منع منح إجازة بيع المشروبات الكحولية في المدن المقدسة (كربلاء/النجف/سامرا/الاعظمية/الكاظمية).
ونصت المادة 14 على: منع منح إجازة بيع المشروبات الكحولية في المناطق المحيطة بالمراقد المقدمة وبمسافة لا تقل عن 500م من كل الجهات وتعتبر المراقد الموجودة في باب الشيخ والشيخ معروف غير مشمولة بهذا الإجراء، فيما منعت المادة 15 منح إجازة بيع المشروبات الكحولية للمحلات القريبة من الجوامع والمساجد والحسينيات والمدارس والمستشفيات بمسافة لا تقل عن 150م .
اقرأ/ي أيضًا: بعد 16 عامًا من "الديمقراطية".. صدام حي في مراكز الشرطة!
أما فيما يتعلق بالإخلال بالآداب العامة فقد نص قانون العقوبات العراقي لسنة 1969: يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد على مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع أو استورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتابًا أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسومًا أو صورًا أو أفلامًا أو رموزًا أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الآداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور أو باعه أو أجره أو عرضه للبيع أو الإيجار ولو في غير علانية. وكل من وزعه أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت. ويعتبر ظرفًا مشددًا إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق.
ربما يكون الغرض من القانون التستر على شخصيات سياسية فاسدة، أو جعله سيفًا مسلطًا على كل من ينتقد شخصيات المحافظة ورجال دينها ليذبح تحت ذريعة انتهاك القدسية
إذًا فما يريدوه المهللون والمطبلون لقانون قدسية النجف بعد أن توافرت أكثر مواده في القانون العراقي قبل مدة طويلة من الزمن، اللهم إلا المادة التي تمنع عرض الملابس النسائية لأنها "تثير جراح القلوب المؤمنة"!! فما الغاية إذًا من ذلك، هل لغرض إثبات الوجود أم لغرض إشغال الناس بهذه التفاهات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، أم لغرض التستر على شخصيات سياسية فاسدة، أم لغرض جعل هذا القانون سيفًا مسلطًا على كل من ينتقد شخصيات المحافظة ورجال دينها ليذبح تحت ذريعة انتهاك القدسية! وبذلك يصبح هذا القانون أداةً لتكميم الأفواه والدليل على ذلك أنه احتوى على مواد قانونية فضفاضة قابلة للتأويل بكل بساطة لتحيي فكرة محاكم التفتيش في القرن الواحد والعشرين، المحاكم التي تفتش في ضمائر الناس ومعتقداتهم أيام هيمنة الكنيسة.
النتيجة العكسية لقانون القدسية
من المحتمل أنه لو طُبق مشروع هذا القانون فانه سيعطي نتائج عكسية حتمًا بعد أن دخل في دائرة المقدس والدين على خلاف لو ترك الأمر للقانون العراقي والتشريعات التي تدعم قدسية النجف دون الحاجة إلى سن مثل هكذا قوانين، والسبب أن المواطن العراقي صار ينظر إلى الزي الديني لرجال الدين وكـأنه ينظر إلى زي اللصوص، فحدثت قطيعة كبيرة بين أغلب الشباب ورجال الدين بعد 2003 وصعود "العمامة" إلى سدة الحكم وما تركت من أثر في وجدان العراقيين الذين عبروا عن رفضهم للمعمم ورجال الدين في الحركات الاحتجاجية التي شهدها العراق في فترات متواصلة، من قبيل رفعهم لشعار (باسم الدين باكونة الحرامة) و (صار البوكَ للهامة من طب بيها أبو عمامة) فأصبح العراقيون يستحضرون كلمة الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغور (اذا رأيت كاهنا فصح حرامي ... حرامي .) كلما رأوا معمم أمامهم.
أما القطيعة مع السياسيين الإسلامين فلا داعي لذكرها لأنها صارت تندرج في خانة توضيح الواضحات بعد الفشل الذريع الذي مني به حكم الأحزاب الإسلامية. إذًا من الممكن أن تنتهك هذه المواد الواردة في قانون القدسية كتحدٍ للسلطة ورجال الدين في ذات الوقت، فلم تعد الخطابات الدينية ولغة الحلال والحرام تأثر اليوم بالشاب العراقي بعد ان أدرك حقيقة أصحابها الذين ورطوه بانتخاب الفاسدين والذين سرعان ما تكسر أقلامهم وتجف محابرهم إذا تعلق الأمر بفتوى تدين سياسي فاسد أو محاسبة حاكم ظالم!!!، فصارت خطاباتهم مواد للسخرية يتداولها الشباب كلما جد جديد من قبلهم. نلاحظ هذه الحقيقة في أوضح صورها بالبيان الذي أصدره مقتدى الصدر مؤخرًا والذي ينصح فيه الشباب والأطفال بالابتعاد عن لعبة "بوبجي" حيث جاء فيه.. لن أقول لكم ذلك حرام ولن أقول لكم أنه مكروه أو قد نهى عنه القران أو نهت عنه السنة النبوية... فالكثير منكم لا يأبه لذلك بل قد يزداد تعلقًا بالبوبجي".
لأنه يدرك تمامًا أن هذه اللغة لم تعد نافعة معهم وتعطي نتائج عكسية فخاطبهم من منطق الصداقة والاخوة!!! .
من المحتمل أن يؤدي تطبيق مشروع هذا القانون إلى نتائج عكسية بعد أن دخل في دائرة المقدس والدين على خلاف لو ترك الأمر للقانون العراقي والتشريعات التي تدعم قدسية النجف
شاهد آخر على هذه الحقيقة، هو تداول نشطاء على مواقع التواصل، بعد صدور قانون قدسية كربلاء، صورة ليد تحمل قنينة كحول أمام إحدى اللافتات التي تعلن عن قانون قدسية كربلاء، في إشارة إلى تمرد أهالي المدينة على القانون نكاية بالمشرعين والمقترحين والمؤيدين الغارقين في الفساد.
ومن هنا تنطبق كلمة الدكتور علي شريعتي: "ليعلم تجار الدين هؤلاء، سوف يأتي يوم وتثور الناس عليهم، وأنا أخشى أن يذهب الدين ضحية لتلك الثورة".
من وراء انتشار موجة الالحاد؟
من حق الناس اليوم أن تسأل ما سبب انتشار الإلحاد اليوم حتى وصلت دعواته إلى المدن المقدسة مثل كربلاء والنجف وغيرها. وحتى تكون الإجابة موضوعية فأننا سندرج إجابات رجال الدين أنفسهم. بعد أن اتهم علاء الموسوي وهو رئيس ديوان الوقف الشيعي "المروجين لثقافة الغرب" بشيوع هذه الظاهرة بين الشباب، حيث قال أمام تجمع كبير يطالب بتطبيق قانون قدسية النجف: اللهم إنا أهل النجف نبرئ إليك في موقفنا هذا وجميع أيام حياتنا من كل من ساعد وشجع على نشر الفساد والتحلل والميوعة بين أبنائنا وبناتنا وشجع على نشر ثقافة الغرب الفاسدة في أوساطنا متذرعًا بعناوين براقه خادعة كحرية الرأي والتجدد والانفتاح والتحضر وما الى ذلك.
لنرى من وراء ابتعاد الناس عن الدين بحسب رجال الدين أنفسهم. يقول المفكر الإسلامي الشيخ محمد الغزالي: إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم. وقال ايضًا: التدين المغشوش، قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ.
أما المرجع الديني كمال الحيدري، فقال في معرض حديثه عن انتشار الإلحاد بين الشباب: يعزا ذلك إلى تخادم المصالح بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية. ويتساءل في ذات الوقت لماذا خلال هذه الـ 14 سنة الماضية ظهرت هذه الظاهرة؟!، ويشاطره الرأي الباحث الإسلامي أسامة الساعدي حيث يقول: "شئنا أم أبينا فإننا نشهد ظاهرة عزوف الشباب عن الدين. وخصوصًا شباب الجامعات".
وبرأيي فإن ظاهرة الإلحاد واللادينية ستستمر بشكل متسارع في أوساط هذا الجيل والأجيال القادمة؛ لحين تقديم قراءة عقلانية رحمانية جديدة للدين بحيث تتجاوز بشجاعة جميع القراءات السائدة للطوائف الإسلامية، السنية والشيعية، على أن يتقبلها العالم الإسلامي، لا أن يبقى يستمع للمشايخ الجهلة ويعتبر أي حركة للإصلاح الديني مجرد هرطقات وآراء شاذة.
وإلا فعليه إذن أن يتحمل العنف والحروب والموت والجهل وإهدار كرامته الإنسانية. وبرأيي كذلك.. سيبقى الإلحاد العربي حيًا ما دام الإسلام السياسي حيًا.
ستستمر ظاهرة الإلحاد واللادينية بشكل متسارع في أوساط هذا الجيل والأجيال القادمة؛ لحين تقديم قراءة عقلانية رحمانية جديدة للدين، وسيبقى الإلحاد العربي حيًا ما دام الإسلام السياسي حيًا
إذًا فالأحرى أن يطبق القانون على هؤلاء الذين نفروا الشباب من الدين بعد أن لبسوه لبس الفرو مقلوبًا، وجعلوه عبارة عن ستار كبير يتستر تحته كل فاسد، وأفقدوه قيمته الروحية وصاروا يتعاملون مع الناس كأنهم منحوتات يصقلوها بأشكال مختلفة حسب مزاجهم، فاذا كانوا حريصين كل هذا الحرص على الإسلام فأين هم من ساحات الاحتجاج التي تطالب بمحاسبة المفسدين، أين مواقفهم من سراق المال العام، أين مواقفهم من الذين يتاجرون بدماء الشباب طوال كل هذه السنين، أليس هؤلاء هم السبب الرئيسي في ابتعاد الشباب عن الدين وعنكم في ذات الوقت فأين مواقفكم منهم؟!، أم أن الدين والشرع يطبق فقط على الفقراء؟!.
اقرأ/ي أيضًا:
"زلة لسان" تحول شاب إلى "داعشي" وشرطة النجف إلى مسرح للسخرية!
قانون جرائم المعلوماتية.. لماذا يخاف السياسيون مواقع التواصل الاجتماعي؟