سال حبرٌ كثير على الورق قبل وأثناء ومع كل ذكرى لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، حتى صار الحديثُ عن أسباب الاحتلال وآثاره ونتائجه مملًا ومعادًا، إلا اللهم الجدال العقيم المتجدد حول ما إذا كان احتلالًا أم تحريرًا، وهي مواقف تتبدل بسرعة قياسية بالمنطق التأريخي؛ فمقاومو الاحتلال السابقون يرون الولايات المتحدة الآن معادلًا ضروريًا وضرورةً لتوازن القوى مقابل إيران. وأصدقاءُ الولايات المتحدة بالأمس يرونها الآن احتلالًا يضايق حليفتهم إيران في المنطقة. وهكذا تتجدد النقاشات مع كل يوم يصادف التاسع من نيسان/أبريل، وهو حدث لا جدال بتاريخيته وتأثيره الكبير على المنطقة بل والعالم.
لم يكن بريمر يعلم أن جزءًا ممن كان يوزعهم على مناصب النظام الجديد سيقودون عملية سياسية تنتج أطرافًا سياسية وعسكرية تحاور من يخلفه على وجود الأمريكيين في العراق
ثمة مصادفة تبرز اليوم مع الذكرى الثامنة عشر للاحتلال، وهي انطلاق الجولة الثالثة من الحوار الستراتيجي العراقي الأمريكي، ولعل من المثير تتبع هذه التحولات خصوصًا ممن سيقرأون أحداثنا الحالية في وقت لاحق بذهنية لا تغرق في التفاصيل.
كانت الولايات المتحدة قبل أقل من عقدين تُمارس دورًا كولونياليًا صريحًا حيث تنتشر قواتها العسكرية على كل الأراضي العراقية، ويمارس حاكمها المدني بول بريمر الصلاحيات السياسية والاقتصادية كافة، حيث يَستقدم سياسيين ويوجّه آخرين ويدعو لاجتماعات لتشكيل مجالس قيادية ولكتابة الدستور. يمارس كل ذلك بطريقة لعلها تفوق صلاحيات الرئيس الذي أُطيح به.
اقرأ/ي أيضًا: الحوار الاستراتيجي: اتفاق على انسحاب القوات الأمريكية من العراق
ربما لم يكن بريمر يعلم أن جزءًا ممن كان يرأس اجتماعاتهم ويوزعهم على مناصب النظام الجديد سيقودون عملية سياسية تنتج أطرافًا سياسية وعسكرية تحاور من يخلفه على وجود الأمريكيين في العراق.
في التاسع من نيسان/أبريل 2003 أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك إسقاط نظام صدام حسين واجتياح قواته للعراق. وفي السابع من نيسان/أبريل 2021 يعلن "مستشار الأمن القومي" العراقي قاسم الأعرجي اتفاقًا مع الولايات المتحدة على عدم وجود قوات أمريكية في العراق. وبين التاريخين جبلٌ من الأحداث.
الآن، رغم شبه الاتفاق على نتائج الاحتلال الأمريكي للعراق، على العراق؛ لا يمكننا الجزم بثمراته على الولايات المتحدة، عبر الغوص في الأسباب وتحليل الثمرات. إن الاختلاف على الدوافع ذاته يعرقل الوصول إلى حقيقة المكاسب أو الخسائر التي حققتها واشنطن، التي تفاوض النظام الذي جاءت به على "وجودها".
نقول، إن كان الثمن المرجو هو إسقاط الدولة وتخريب البلاد وإعادتها إلى العصور الوسطى كما صرح مسؤول أمريكي، فقد فازت. وإن كان الهدفُ هو الإطاحة بالإرث السياسي والآيديولوجي القومي والدور الإقليمي الفاعل والقدرة العسكرية على تهديد الآخرين فلقد نجحت نسبيًا. فصحيحٌ أن العراق خرج من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي وانتهى دوره الفاعل في المنطقة، إلا أنه لا زال مصدر توتر ومبعث قلاقل ثم صار مهددًا للأمن العام. وكذا، في حال أرادت إسقاط صدام حسين فقط لمخاطره على المنطقة، فعراق صدام 2003 لم يكن يشكل تلك الخطورة الكبيرة على مصالح حلفائها في الخليج والمنطقة إلى الدرجة التي تُصرف لأجلها تلك التريليونات من الدولارات والأرواح والقلق الدائم.
إذا كانت الهيمنة على البلاد وثرواتها وقرارها السياسي بالمعنى الكلاسيكي للكلمة هي المبتغى الأمريكي فقدت فشلت. إن العراق يُستنزف دون فائدة أمريكية مباشرة - مرة أخرى - بالمعنى التقليدي لهيمنة المحتلين عبر التاريخ.
وإذا كان الهدفُ هو إدارة الصراع فهي جزءٌ من هذا الصراع الذي لا تديره فحسب، والخصمُ المباشر للولايات المتحدة الأمريكية - أعني إيران - ليس بالمستوى المطلوب الذي يستدعي فتح جبهات للصراع معه. إيران على أية حال ليست روسيا أو الصين.
ينقص هذا الإيجاز المختصر وربما المخلْ، نقطتان متداخلتان، هما أمن إسرائيل، والأهداف الاستراتيجية طويلة الأمد. يُمكن القول إن أمن الكيان المحتل أصبح أفضل من السابق بعد احتلال العراق، ليس لأن الأخير أحد الأقطاب المعادية للكيان، والذي سقط بالدبابات الأمريكية، بل لأن مصير "دول المواجهة" أقلق مضاجع الحكام العرب وقادهم إلى ما هم عليه الآن وما يفعلوه من فضائح مع الإسرائيليين.
ستبقى النقطة الأخرى تتعلق بالبُعد الاستراتيجي طويل الأمد والمتعلق بموقع العراق في النظام العالمي الجديد، والذي من المفترض - بحسب هذه الافتراضية - أن يكون قاعدة أمريكية مستقبلية متقبّلة للهيمنة الرأسمالية بعد سنوات من الاستنزاف وتراكم الديون والانهيارات الأمنية والاقتصادية والسياسية.
الإدارة الأمريكية تجلس بعد 18 عامًا على احتلال العراق لتفاوضه على انسحابها للمرة الثانية وتحت ضربات الصواريخ والعبوات المستهدفة لقواعدها وسفارتها في العراق
مع ذلك، يجب التذكير بأن النقطتين أعلاه افتراضيتان، ولا يُمكن الجزم بنتائجهما إلا بعد عقد أو عقود. حتى ذلك الحين، لا بد من التذكير بتقلبات الحال: الإدارة الأمريكية تجلس بعد 18 عامًا على احتلال العراق لتفاوضه على انسحابها للمرة الثانية وتحت ضربات الصواريخ والعبوات المستهدفة لقواعدها وسفارتها في العراق. وسنفصّل في النقطة الأخيرة لاحقًا.
اقرأ/ي أيضًا:
أهداف متشابكة.. هل يُصلح "الحوار الاستراتيجي" ما أفسدته الصواريخ؟