24-أكتوبر-2021

ما طالبت به احتجاجات تشرين سيبقى راسخًا بالأذهان لفترة طويلة (فيسبوك)

تحل علينا الذكرى الثانية لانتفاضة تشرين دون تحقيق أية مطالب لها عمليًا، فلا تغيير أو حتى إصلاح سياسي  قد أصاب آلية المحاصصة التي تدار بها الدولة العراقية منذ العام 2003، ولا إنهاء لفوضى السلاح المنفلت، ولا كف للتدخلات الأجنبية، وبالطبع يدور كل ما سبق في ظل فساد مستشري يعد عاملًا رئيسيًا جاذبًا له، بل أن الزمن قد طوى صفحة الكشف عن قتلة المتظاهرين وتقديمهم للعدالة، فيما تتزامن الذكرى والبلد في خضم أزمة نتائج انتخابات برلمانية مبكرة اعتبر إجراؤها تلبية نظرية لإحدى مطالب الشارع، وذلك فقط لتقاطعه عمليًا مع رغبة قوى السلطة بإعادة تعديل موازين القوة فيما بينها بخارطة العملية السياسية بعد زلزال تشرين الذي ضربها وأثر في نتائج الاستحقاق الانتخابي بوجوه عديدة ابتداءً بنسبة المقاطعة الشعبية الكبيرة، ومرورًا بالهزيمة المدوية لمناهضي تشرين وانتهاءً بالصعود غير المتوقع لقبة البرلمان من قبل قوى سياسية ناشئة محسوبة على تشرين. 

انتفاضة تشرين كانت صرخة المحروم المنادية بالعدالة الاجتماعية وحلم الشباب بدولة المؤسسات

أهمية الحدث التشريني ربما لم ولن يتضح إلا بعد عقود طويلة على أن أقل ما يمكن وصفه به الآن، هو أنه كان الصوت المدوي وللمرة الأولى للأغلبية الصامتة والمحرومة في وسط وجنوب العراق المستغلة دومًا كحطب للأزمات ووقود للحروب عبر تاريخها، وهي بهذا الوصف تقترب كثيرًا مما يطلق عليه أكاديميًا بـ"ثورات المهمشين في التاريخ الإسلامي"! فقد شهد العالم الإسلامي وعبر تاريخه الطويل الكثير من الحركات الاحتجاجية التي قادها عوام الناس للمطالبة والعمل على تغيير سياسي يتيح عدالة اجتماعية، منتظرةً تلك الحركات التي عانت من إشكاليات التاريخ الإسلامي الثلاثة الرئيسية، وهي غياب المنهج العلمي بسرد أحداثه والتركيز على الشق السياسي والعسكري لا الاقتصادي والاجتماعي فيه، وأخيرًا وليس آخرًا التشويه المتعمد لصورة المعارضة فيه والعوام منهم على وجه الخصوص. 

اقرأ/ي أيضًا: عامان وتشرين على قيد الحياة.. عصارة احتجاج فضح "التشيّع السلطوي"

إن مراجعة سريعة لحركات وانتفاضات الزنوج والعيارين والشطار والقرامطة في العراق والصقورة في المغرب والأندلس وأحداث الشام وحرافيش مصر تبرز لنا القواسم المشتركة الأربعة لها مع صرخة بسطاء العراق وشبابه بتشرين وهي كالآتي:

إن غياب العدالة الاجتماعية والتوزيع غير العادل للثروة وما يترتب على ذلك من تردي الوضع المعيشي، كان كفيلًا للمطالبة بأحداث تغيير سياسي يعيد صياغة هذه المعادلة المجحفة، ويغير من الواقع البائس دون أن نتناسى بأن المشهد العراقي بعد العام 2003 يتجاوز ذلك لما يمكن اعتباره خراب شامل وممنهج بشتى مجالات الحياة، وهي أسباب كانت ولا تزال وستظل دافعًا رئيسيًا ومنطقيًا وعقليًا لانطلاق وديمومة أي حراك احتجاجي أو ثوري في كل زمان ومكان.

سياسة التشويه والشيطنة والتخوين التي جوبهت بها تاريخيًا كل حركات العوام الاحتجاجية تارة عبر مؤرخي البلاط الذين تحاملوا على هؤلاء المستضعفين واصفين إياهم بأبشع النعوت وأقبح الصفات كـ"الفسق والسلب والنهب"، كما قال الطرطوشي "وأهل الخسة ورعاع أراذل" على حد وصف الغساني عند تطرقهم لثورات العيارين والشطار في العراق إبان الحقبة العباسية، وتارة أخرى عبر تحريض المؤسسة الدينية (الفقهاء) عليهم بتكفيرهم (كما كفر عمر بن حفصون بالأندلس بعد مطالبته بتحرير المستضعفين من المولدين من سطوة الأرستقراطية العربية الحاكمة) أو رميهم بتهم الالحاد والزندقة والهرطقة وحتى الإباحية الجنسية تأثرُا بالمزدكية الفارسية كما حصل مع القرامطة وفقًا لافتراءات الغزالي عليهم بكتابه (المستظهر) والذي ألفه ضدهم بتوجيه من الخلافة العباسية رغم أن المزدكية نفسها كانت تقول بشيوعية المال لا النساء وحق المعدمين في الزواج فقط!

والصنف الأول هم الأسلاف الذي سار على نهجهم اليوم مدوني الجيوش الالكترونية لأحزاب السلطة في مواقع التواصل الاجتماعي الذي لم يتورعوا باتهام المتظاهرين بقائمة لا حصر لها من تهم العمالة والتخريب، مرورًا بالانحطاط ومفاسد الأخلاق وصولًا لتلويث البيئة بحرق الإطارات، فيما تكفل المصلحون بالسير على خطى الصنف الثاني بتوجيه اتهامات للمتظاهرين متصلة بقضايا شائكة كالدين والأخلاق والزنا والمثلية والالحاد في محاولة لحرف مسار التظاهرات بعد استنفاذ غايتهم منها بإسقاط حكومة عبد المهدي!

كانت ثورات المهمشين هي الضجيج الذي أصدره العوام من المحرومين والفقراء والفلاحين والحرفيين لإيصال صوتهم الرافض لظلم وفساد حكومات الارستقراطية الثرية ورجالات الإقطاع العسكري، فيما كانت الصرخة التشرينية بوجه الإقطاعات السياسية والعائلية المتحاصصة تحت ستار المذهب والقومية، وهو ما جعلها بكلتا الحالتين عرضة لخذلان الطبقة الوسطى التي انحازت بنهاية المطاف لخيار مراعاة مصالحها الاقتصادية المرتبطة بمنظومة السلطة، والتي اكتفت في أفضل أحوالها في الحالة العراقية بالتعاطف المعنوي مع الشارع المحتج إبان تظاهرات تشرين. 

إن ضعف الوعي السياسي وانعدام الخبرة العملية كانا عاملين حاسمين لما وصلت إليه انتفاضة تشرين من نتائج سائرة على خطى ما سبقها من ثورات المهمشين، إلا أن هذا النوع من الحراك الاحتجاجي قد نجح على أقل تقدير بتعرية منظومة السلطة ومن دار بفلكها من الفئات المجتمعية، ومراكز القوى التقليدية التي مثلت تشرين، ثاني تهديد وجودي حقيقي لها بعد الشيوعية منتصف القرن الماضي. 

 ما طالبت به احتجاجات تشرين سيبقى راسخًا بالأذهان لفترة طويلة ونتائج الانتخابات الأخيرة هي خير شاهد على ذلك

تشرين كانت صرخة المحروم المنادية بالعدالة الاجتماعية وحلم الشاب بدولة المؤسسات وطموح المثقف بإعادة قطار العراق إلى مساره الصحيح بعيدًا عن هيمنة المحاصصة وشيوع الفساد وسطوة السلاح وتدخلات الجوار، ولا أريد أن أكون متشائمًا بالقول إنها كانت الفرصة الأخيرة لتحقيق ذلك! لكن ما هو ثابت فعلًا بأن ما طالبت به سيبقى راسخًا بالأذهان لفترة طويلة ونتائج الانتخابات الأخيرة هي خير شاهد على ذلك!

ربما ليوم تترجم فيه هذه المطالب لواقع حال، فهل يحصل ذلك فعلًا؟!

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

وفاء لتشرين.. كلمات لا بدّ منها

البحث عن عالم أفضل.. تشرين أنموذجًا