مذكّرات كائن وحيد الخلية
من المعروف أن الكائنات وحيدة الخلية لديها قدرات كافية لتمكينها من التفاعل مع المحيط والتكيّف معه. وهذا يعني انها قادرة على:
- أولًا: تحسّس التغييرات التي تحدث في البيئة المحيطة؛ كارتفاع أو انخفاض الحرارة.
- ثانيًا: إجراء تفاعلات داخلية استجابة لتغييرات المحيط.
- ثالثًا: تعمل التفاعلات، فضلًا عن الحماية من مخاطر تغيرات المحيط، على دفع المضار والحصول على المنافع ومنها الغذاء.
طيّب أليس هذا هو الغرض الأساسي من الوعي؟ أليس الوعي، بأبسط صوره، هو الفعّالية التي تُمكّن الكائن الحي من إدراك المحيط لدفع المخاطر والحصول على المنافع تحقيقًا لأفضل فرص البقاء؟
صحيح أن الفرق هائل ما بين تحسس الكائنات وحيدة الخلية للمحيط، وما بين إدراك الحيوانات له، خاصَّة مع الإمكانات التي توفرها حواس الحيوانات المتطورة، لكن تبقى هذه الفروقات في دقَّة العملية وشمولها، وليس في جوهرها، فجوهر العملية واحد.تقييم مخرجات الوعي يجب أن ينطلق من تجديد فهمنا وتقييمنا للمعلومة
إذًا؛ لماذا لا نقول بأن الكائنات وحيدة الخليَّة تدرك المحيط ولديها وعيها الخاص به؟ وإذا صح هذا بخصوص هذه الكائنات فهل يصح بخصوص أي خلية داخل أجسادنا تؤدي العمل نفسه؟ وإذا لم يكن هذا الذي نتكلّم عنه إدراكًا ووعيًا، فما هو إذًا؟
نحن نقول بأن القطَّة لديها وعي، والسبب أن القطَّة تستطيع اكتشاف الضرر أو توقعه وتجنبه، وتستطيع التنقل عبر المحيط للحصول على الطعام. وهذا هو بالضبط ما تفعله الكائنات وحيدة الخلية. فهي تستشعر الضرر وتتجنبه أو تتكيف معه، وتحصل على غذائها.
لكن ما أهميَّة اعترافنا بأن الكائنات البسيطة لديها وعي؟ الجواب على هذا السؤال لا ينشغل بفهم عمليات الوعي فقط بل وبتقييم مُخرجاتها. وربّما أنه سيساعدنا على التواضع قليلًا، ونحن نقيّم أهميَّة المتراكم عن وعينا وداخله من معلومات.إن تقييم مخرجات الوعي يجب أن ينطلق من تجديد فهمنا وتقييمنا للمعلومة، ولنأخذ مثالًا المعلومات المرتبطة بالسلوك، أي التي نستعملها لتحديد استجابتنا لمؤثرات الواقع. فنحن نصنّف هذه الاستجابات إلى؛ الصنف الذي يستند إلى المعلومات التي نحدّد عبرها الإجراء المناسب اتّخاذه للتفاعل مع المؤثرات الخارجية. وإلى الصنف الذي لا يستند إلى المعلومات، إنما يرتبط فيه السلوك بالمؤثر بنحو من أنحاء الارتباط.
النمط الأول هو الذي نعتقد بأنه يخصّنا فقط، فمثلًا عندما تنخفض درجة الحرارة من حولنا فإنّ استجابتنا لا تتَّخذ مسارًا واحدًا، بل تنفتح على عدَّة احتمالات، نختار من بينها ما يتفق مع رغبتنا أو احتياجنا. إذًا يمكن أن نرتدي ملابس مناسبة، أو نحتمي بمكان دافئ أو نشعل نارًا، وووالخ، ونحن نعتقد بأن هذه الميزة متوفرة عندنا بسبب تراكم المعلومات والخبرات.
أما النمط الثاني فهو الاستجابة البسيطة التي نعتقد بأنها تخص الكائنات البسيطة، وهي التي يرتبط عندها المؤثر باستجابة محدَّدة لا تتوسطها عمليات اختيار تستند إلى معلومات وخبرات. لكن هل أن هذا التصنيف دقيق؟ على ما يبدو هو ليس دقيقًا؛ فما دامت المؤثرات تتعدّد حول الكائنات البسيطة، فإن استجاباتها ستكون متعدّدة، فهناك مثلًا ارتفاع وانخفاض بدرجات الحرارة وارتفاع وانخفاض بدرجات الملوحة وارتفاع وانخفاض بدرجات الحموضة، وعند هذا الحد سيكون لدينا 24 احتمالًا مختلفًا من احتمالات تغير المحيط. فقد يصادف ارتفاع الحرارة مع انخفاض بالملوحة والحموضة، أو العكس وهكذا. وكل من هذه الاحتمالات سيصاحبه سلوك مختلف. وعند هذا الحد يتَّضح أننا إزاء أنواع مختلفة من علميات الربط بين مجموعة من المؤثرات ومجموعة من الاستجابات، ومثل هذا الكم من العمليات يحتاج إلى نوع من عمليات التخزين. لكن ألا نكون في مثل هذه الحالة أمام نوع من البيانات أو المعلومات؟ وإذا كانت لدى هذه الكائنات بيانات مخزَّنة، فأين نصنّف مثل هذا الخزين؟ وهل هو معلومات أم لا؟ وإذا لم يكن معلومات فما هو إذًا؟
من وجهة نظري فإن أي استجابة لمؤثر تكون مخزونه ومعدَّة للاستعمال فهي معلومة. لكن هل يسهل علينا نحن البشر أن نعترف بأن الكائنات وحيدة الخلية، وربما جميع الخلايا، تمتلك نظامًا لتخزين وإدارة المعلومات، ومن ثمَّ نوعًا من أنواع المعرفة؟ لا طبعًا، فمثل هذا الاعتراف يكسر إرادة احتكارنا للمعلومات، لأن امتلاك الكائنات الأخرى للمعرفة يُسقط المبرر الذي نستند إليه في اعتقادنا بأننا مركز الوجود والغاية من خلقه، سنفقد المبرر الذي يجعلنا، دونًا عن غيرنا، محطَّ عناية الله.
قد يرد اعتراض مفاده أننا الوحيدون من نمتلك وعيًا بذواتنا، وقدرة على الإحساس بوجودنا المستقل المختار والمؤثر في الوجود. لكن أليس من الخطأ أن نقيس التجارب المختلفة في الوعي بالنسبة إلى تجربتنا؟ ثم ألا نصادر على المطلوب عندما نعتبر أن الوعي بالذات ميزة ثم بالاستناد إليها نحكم بانتفاء الوعي لدى الكائنات المختلفة؟
أننا مغرورون لدرجة تعمينا عن رؤية الأشياء كما هي ومن ثم الاعتراف بأن الكائنات البسيطة تجمع المعرفة لكن بأسلوب مختلف
ما أريد الوصول إليه هو أننا كبشر أصحاب تجربة في الوعي، ومن الخطأ أن نحول هذه التجربة إلى معيار في تحديد ما هو واع وما هو غير ذلك. الأمر يشبه اعتقادنا، مثلًا، بأن التكاثر مرتبط بالولادة ثم بالرحم، ومن ثم نحكم على الكائنات التي لا تمتلك رحمًا بأنها لا تستطيع التكاثر. لكن الواقع يقول إن هناك كائنات تتكاثر بالانقسام، نعم هي لا تتوالد، لكنها تتكاثر، الطريقة مختلفة لكن النتيجة واحدة، كل ما في الأمر أننا مغرورون لدرجة تعمينا عن رؤية الأشياء كما هي، ومن ثم الاعتراف بأن الكائنات البسيطة تجمع المعرفة لكن بأسلوب مختلف.