أكتب هذا المقال وأنا أتذكر عمي، مرت 14 سنة على رحيله، كان رجلًا طيبًا، أحب فيه تساؤلاته حول الحياة وبحثه المستمر رغم أنه لم يكن عالمًا ولا مفكرًا، ولا ممن صدح صوتهم في الأوساط الثقافية. ما زلت أشعر أنني أشبهه كثيرًا رغم إني لم أستطع أن ألمس حقيقته كاملة. قتل عمي على يد القاعدة، لأسباب قالوا لي إنها طائفية، قبل أن أعرف إن الطائفية تصنع بيد من يتحكمون بالمشهد السياسي، ومن يومها وأنا أشهد ولادات متعددة للميليشيات في العراق تحت عباءة الدين والعقيدة والشريعة وبمسميات مختلفة.
تحولت العاصمة بغداد إلى حاضنة للميليشيات بحماية سياسية تشرعن وجودها
أكره في الاحتلال الدبابة ورشاشة الأمريكي والبسكويت، أكره خوف الطفلة في وقتها، لكني كنت كلما لمحت شرطيًا عراقيًا تبدد الخوف في داخلي، أنا أتحدث قبل 17 سنة عندما كان الشرطي يملك مسدسًا، قبل أن تستولي الجماعات المسلحة على المشهد العراقي، بحجج المخلص أو المنقذ. اليوم، مرت 17 سنة وما زالت هذه الجماعات تخرب ما تبقى من البلاد، مدن هدمت وهجر أهلها، وأخرى أصبحت ساحات للنزاعات القبلية وعاصمة تحولت لحاضنة للميليشيات، التي تحميها الحكومات المتعاقبة وتشرعن وجودها.
اقرأ/ي أيضًا: حريةُ التعبير وقتله
قبل عدة أيام كنت استمع لأحاديث الولائيين في تطبيق "كلوب هاوس"، وكانت الغرفة التي جمعتهم تشبه شكل العراق الحالي، حيث أن المسؤولين عن الغرف في الغالب شيخ دين مبرّر للسلاح في العراق، وإعلامي و"بلطجي"، ولم أستغرب عندما تحول رجل الدين لـ"بلطجي" أيضًا، كما أنني لم أستغرب رسائل الإعلامي المحملة بالحقد والكراهية، لأن الإعلام لم يصل لما وصل إليه الآن إلا بعد أن أصبح موزعًا على حسب الكيانات السياسية والطائفية، فبالتالي، الشيخ الفاسد والإعلامي الفاسد يصنعان جيلًا كاملًا من "البلطجية". لقد كان الشيخ يفسر القرآن كما يشاء وهو ما فعله داعش الإرهابي، حينما كان يقتل مرة باسم الدين ويهجر مرات، يسبي النساء، ويكفر الناس، وهذا ما يدل على أن النصوص القرآنية نصوص مطّاطية بإمكان المجرم والضحية أن يستخدمانها في ذات الوقت، هذا الشيخ الذي يسمعه الناس لا يعرف أن يفسر أبسط الكلمات التي كان العرب القدماء يتداولونها، إذ فسّر كلمة "إمام مبين" من سورة يس بقوله إن "الإمام هو النبي لأنه يعلم كل شيء"، ومن ثم راوغ وقال إنه "إمام أي من الأئمة"، الشيخ لا يعرف بأن الإمام هو الكتاب! وأعتقد أن الشيخ كان يقضي وقته في مشاهدة أفلام الدمى المتحركة، إنهم لا يعرفون شيئًا من الدين سوى العمامة، وجمهورهم لا يعرف من الدين غيرهم، هذه رحلة طويلة كان ثمنها العراق.
17 سنة وهم يزعمون بأنهم يمتلكون السلاح للدفاع عن العراق والتصدي للمحتل خلال أكثر من عقد ونصف، ولم يستطيعوا أن يعيدوا بناية واحدة أو يحافظوا عليها على الأقل، واليوم بعد أن عجزوا عن بناء هوية محترمة لهم تحولوا لوحوش، صاروا يهددون حتى أبناءهم.. إنهم عاجزون عن استقطاب أناس جدد، لذلك صاروا يزدادون بالوراثة، ويخافون أن يتمرد الابن على الأب، أنهم في الواقع يذهبون لبيوت الشبان بدوريات مسلحة يهددون النساء قبل الرجال، وفي فضاء "كلوب هاوس" ينصبون المحاكم الشرعية، يحاكمون الناس ويصدرون الأوامر، ويسجلون أحاديث الشبان البسطاء الذي يريدون عراقًا جديدًا لا سلطة للسلاح فيه، تمامًا مثلما كان يفعل البعثيون في السابق عندما كانوا يكتبون تقاريرهم عن الجيران والأصدقاء والمعارف، أنهم بسبب الأقاويل المستمرة عن فضلهم في محاربة داعش والبعث، أصبحوا هم داعش والبعث، لقد صاروا نسخًا أكثر وحشية من الأصل.
تحول الدين لمصدر رعب للناس البسطاء، وصاروا بدل أن يقصدوا رجل الدين يهربون منه، وصاروا يلتزمون الصمت إن تعرضوا للخطر، لأن المراكز التي من المفترض أنها تحمي "المواطن" وتعيد له حقوقه ليست سوى لافتة معلقة في الهواء مكتوب عليها اسم المركز الفلاني، وإن كانت هذه الجماعات المسلحة تهدد من في السلطة وتتحكم بقراراتهم فما هو شكل الدولة التي يتصدرها مجموعة مسلحين يسرقون ويقتلون ويكفرون الآخر بحجة المنقذ؟!
قبل عدة أيام تسبب هيتر كهربائي في موت أكثر من 80 شهيدًا وهو ذاته الهيتر الذي بقي مفتوحًا منذ 2003، تخيلوا أن المواطن الذي أنهكه المرض يلجأ للمستشفى الحكومي كي يخرج معافى، فيخرج رمادًا، هذا هو مصيرنا في ظل وجود جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجماعات التي أفرغت من محتواها وصارت تدخل بيوت العالم وتتحكم بمصائرهم، تترأس الوزارات، وتصدر القوانيين، تعاقب الناس بالسلاح أو بالعصا لا مشكلة في ذلك، المهم أنه في كل مرة يكون المذنب مندسًا، أو تماسًا كهربائيًا.
اقرأ/ي أيضًا:
"كلوب هاوس" في العراق.. تحريض وتهديدات بـ"القتل" للصحفيين والنشطاء
جحيم مستشفى ابن الخطيب: جثث متفحمة في ردهة إنعاش مرضى "كورونا"