في مقالين سابقين وضمن سلسلة من أربع مقالات بعنوان عام هو أنثروبولوجيا الوعي، تحدَّثت عن جوانب مختلفة من الإدراك، وكان يفترض بهذا المقال أن يكون مكمّلاً للسلسلة، لكنَّ صديقًا مهتمًّا بالأنثروبولوجيا كان قد رفض إصراري على تخصيص اتجاه في الأنثروبولوجيا يُعنى بدراسة الوعي البشري، من منطلق أن الوعي مشمول بالدراسات الأنثروبولوجية كما هو الحال بالدراسات التي تقع ضمن أنثروبولوجيا المعرفة مثلًا، ومن ثم فلا مبرر لإيجاد تخصص جديد، خاصَّة وأن التخصصات كثيرة وصار عددها سببًا في الترهل.
وجوابًا على اعتراضه ولأجل توضيح وجهة نظري أقول:
من المعروف أن علم الاجتماع يدرس الإنسان دخولًا إليه من المجتمع بما يتأسس عليه من علاقات ومؤسسات وأنظمة، وأن علم النفس يدرس الإنسان دخولًا إليه من دراسة بناءه النفسي ومكونات شخصيته والظروف المؤثرة على ذلك، أما الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان فيدخل إلى دراسة الإنسان من دراسة التمايز الثقافي بين المجتمعات. وكان أن تأسس هذا العلم على هامش الحركات الاستعمارية التي كشفت غرابة الثقافات واختلافها عن بعضها البعض، ومن ثم اختلاف المجتمعات وتباينها من نواح كثيرة، الأمر الذي أوجب وضع الثقافة، المسؤولة عن هذا الاختلاف، على بساط البحث والتحليل بشكل مركّز.
الوعي المؤَسِّس يُشكّل الثقافة ثم تأتي الثقافة بمرحلة لاحقة فتشكل الوعي باستعمال وسائل عدّة تأتي بمقدمتها التنشئة الاجتماعية
لكن لماذا تختلف الثقافات وتبعا لها تختلف المجتمعات؟ في الحقيقة تختلف الثقافات بسبب أن الوعي، غالبًا، لا يُدْرك الأشياء كما هي بل يضيف إليها رموزًا ودلالات تجعلها غير ما هي عليه، ولأن الكثير من الرموز متشابهة لدى أبناء كل جماعة أو مجتمع لذلك يتشابه أبناء الجماعات في إدراكهم للأشياء وتعاملهم مع الكثير من القضايا، ثم تختلف كل جماعة عن الأخرى. الطعام يمكن أن يكون طعامًا عاديًا، أو يكون طعامًا مقدسًا عندما يُقدّم كقربان أو يُهدى لأرواح الموتى، وهنا يقوم الوعي البشري بإضافة قيمة اعتبارية للطعام، تجعلنا نتعامل معه بشكل مختلف مع أنه لا يختلف عن الطعام العادي. في كل ثقافة هناك طعام مقدّس، لكن الطعام المقدّس عند البوذيين لا يكون مقدسًا لدي أتباع الديانات الأخرى، وهكذا.
الملابس هي ذاتها، لكن ملابس عالم الدين تختلف في قيمتها عن ملابس شيخ العشيرة عن ملابس الإنسان العادي، وها هنا قيم اعتبارية مضافة أيضًا. نحن نصمّم ملابس رجل الدين لتحمل رموزًا تجعلها مختلفة عن ملابس شيخ العشيرة مثلًا، والغرض هو تمكين كل صاحب وظيفة من ممارسة دوره المناط به. وها هنا سؤال يجب أن يتم طرحه هو: كيف تتمّ هذه العملية ولماذا؟
الجواب بسيط ومعروف، وهو أنها تتمُّ بالوعي وعن طريق الوعي وللوعي. فهي تتم داخل الوعي وليس خارجه، فالطعام المقدس لا يختلف خارجيًا عن الطعام العادي، والأضحية هي خروف عادي تمامًا، لكن حمولته الدينية لا تَحْدُث إلا داخل الوعي. وعن طريق استعمال أدوات الوعي المختلفة في التخاطب وإرسال الرسائل يتم نقل هذه القيمة الاعتبارية من وعي إلى آخر ثم التواطؤ عليها بين الناس. أما الهدف منها فهو التأثير على وعي الجماعة لتوحيد موقفهم من بعض القضايا الخاصة بالجماعة نفسها، ومن هنا تتميز هوية كل جماعة وتنفصل عن غيرها بكيان خاص يساعد على تماسك أفرادها. فملابس رجل الدين المسيحي لا تعني شيئًا للمسلم، أو هو على الأقل لا يفهم رموزها، كما أن المسيحي لا يعرف بأن العمامة التي يعتمرها رجل الدين المسلم على رأسه تشير إلى عمامة الرسول.
خلاصة هذا الموضوع أن الوعي، المؤَسِّس، يُشكّل الثقافة، ثم تأتي الثقافة بمرحلة لاحقة فتشكل الوعي باستعمال وسائل عدّة تأتي بمقدمتها التنشئة الاجتماعية. وإذا عدنا للمثال السابق فإن جهل كل من المسيحي والمسلم بالملابس الدينية الخاصة بدين الآخر مردّه أن ثقافة كل منهما لم تؤسس لهذه المعرفة في وعيهما. وهذا ما يؤكد أن الوعي في جزء كبير منه يُصنع في مشغل الثقافة.
على أساس ما تقدّم يفترض أن يكون الوعي موضوعًا لعلم الأنثروبولوجيا من زاويتين، الأولى هي زاوية أن الوعي يَصْنع الثقافة، والثقافة كما قلنا تقع في بؤرة اهتمام هذا العلم، فلا مناص من دراسته. والزاوية الثانية أن الوعي في جزء كبير منه مُنْتَج ثقافي، وهو هنا لا يختلف عن الدين واللغة فلماذا تَدْرُس الأنثروبولوجيا الدين واللغة إلى درجة أن تخصص لكل منهما فرعًا خاصًّا ولا تفعل ذلك مع الوعي؟
هاجس التسلّح هو الذي يقود التكنولوجيا وليس هاجس معرفة الحقيقة
لكن الموضوع لا يتوقف عند هذا الحد، فمن جهة أخرى الأنثروبولوجيا هي علم الإنسان، والإنسانية تكتسب تميّزها عن الحيوانية من تفوق وعي البشر على سائر الحيوانات، هكذا نعتقد على الأقل، إذًا فكيف يمكن لعلم الإنسان ألا يتخصّص بدراسة الميزة الأهم، وربّما الوحيدة، التي تميز الإنسان عن بقيّة الحيوانات؟ وفضلًا عن كل ذلك ثمّة سؤال لا يمكن للأنثروبولوجيا أن تتجاهله، هو؛ لماذا لا تزال الميول أو الغرائز أو الدوافع "الحيوانية" هي التي تقود المجتمع الإنساني، لماذا لم يتغلب وعينا الإنساني "المتعالي" على حيوانيتنا؟ لماذا لا يزال منطق القطيع وآلياته هما اللذان يقودان معرفتنا بالأشياء أو تعريفنا لها؟ لماذا لا يزال هاجس الافتراس هو محرك حضارتنا؟ وما الحروب إلا حفلات افتراس هائلة. نحن نقول بأن الوعي هبة الحقيقة وهو المسار المهيأ للوصول إليها، لكن العاملين بهذا المسار ووفقه، هم الأقليّة المنزوية التي لا حول لها ولا قوّة، أما الأكثرية الفاعلة والمؤثرة فهي الأكثرية التي تمثّل الرأي القائل بأن الوعي هبة الحاجة إلى البقاء، ولذلك فإن الهاجس الذي يقود الحضارة البشرية هو هاجس الدفاع عن النفس وتعزيز فرص بقاء الجماعات عبر تسخيرها أفضل مواردها من أجل صراع التسلح المحموم، وفي الحقيقة فإنّ هاجس التسلّح هو الذي يقود التكنولوجيا وليس هاجس معرفة الحقيقة.
بالاستناد لما تقدم هل يمكن القول إن السعي لتأسيس ميدان بحثي يحمل عنوان "أنثروبولوجيا الوعي" ترف لا طائل من ورائه؟