انطلقت مارينا جابر على دراجة هوائية في شوارع العاصمة بغداد فأثارت الصخب. شغلت الشابة العشرينية "المجتمع الافتراضي" العراقي على فيس بوك لأيام. ظلّت صورتها تتكرّر بين معجب وساخر ومناصر ومُدين. مارينا تبدو مشهدًا ضاجًا بالحياة وسط الموت العراقي اليومي، ومارينا حرّكت راكد المرأة التي تظلّ الأحزاب السياسية ورجال الدين من خلفها يحاولون الإساءة إليها والحطّ من قدرها كل يوم.
لم يرفض المجتمع بعض الحقوق، وكيف يقبل يقبل حاجة الفرد لأمور ينظر إليها بريبة رغم أنّها طبيعية، وغير مؤذية ولا تخدش الحياء؟
بداية، كانت فكرة مارينا فنيّة لمشاركتها في معرض "تركيب" للفنّ الحديث الذي أقيم في بغداد في أيار/مايو العام الماضي وتضمن فنونًا مختلفة مثل تأثيث الفراغ والفيديو آرت. إلا أن مشروع مارينا الفنّي كان سؤالًا أساسيًا لدراسة المجتمع الذي تحاول فهمه أكثر منه عملًا فنيًا رصينًا: لِمَ يرفض المجتمع بعض الحقوق، وكيف من الممكن أن يقبل حاجة الفرد لبعض الأمور التي ينظر إليها بريبة، رغم أنّها طبيعية، وغير مؤذية ولا تخدش الحياء؟
هكذا أطلقت الفتاة العنان لنفسها، لبست سروال جينز، وركبت دراجة هوائية وجالت في مناطق بغداد، وأخذت تتصوّر وهي تقوم بجولاتها على الدراجة الهوائية بشعرٍ مربوط وقميص فضفاض. وصحيح أنها في البداية أزعجت بعض المارّة وأصحاب المحال وسط بغداد، لكن بعد مرورها لأكثر من مرّة من أمامهم صار أمرها عاديًا، وأخذ الجميع يتقبّلها، ولو على مضض. لقد وجدت الفتاة ما كانت تبحث عنه. المجتمع سيتقبّل أيّة ظاهرة إذا ما شاهدها أكثر من مرّة.
لكن مارينا لم تثر الصخب عندما عرضت عملها الفني في القاعات المغلقة قبل عام من الآن. كان عملًا فنيًّا لفتاة على دراجة هوائية، وهو أمر عادي يمرُّ بسلام في عراق الأزمات، الأمر الذي دفعها إلى عدم الاكتفاء بهذا، فعادت وكررت الأمر وهي تجول على الدراجة الهوائية في أكثر المناطق البغدادية صخبًا، وهذه المرّة لن تقوم بأكثر من التقاط الصور لنفسها، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي: "أني (أنا) المجتمع" تقول جملتها بالإضافة إلى صورها على فيسبوك، مبرّرة أنها أيضًا جزء من المجتمع كمرأة، ويحقّ لها فعل أي شيء لا يتعدّى على حقوق الآخرين، ولا يخدش الذوق العام، ولا يحطّ من قدر أحّد. والأهم أن الدراجة الهوائية، التي صار لها ماراثون للنساء والرجال بسبب مارينا (انطلق صبيحة يوم الاثنين الماضي)، ليس طموح الفتاة البغدادية، وإنما التعرّف على مجتمع لم يحاول أحّد استفزازه لمعرفة طريقة تفكيره، وإذا ما كان سيتقبّل مثل صدمات مارينا الرحيمة وهي تقود دراجتها الناعمة على أسفلت العاصمة المتهاوي.
اقرأ/ي أيضًا: المعنفات في مصر.. حزينات لا ينقذهن القانون
بالطبع حظيت مارينا بحفلات سباب كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، عدّها البعض خارجة عن الأعراف والتقاليد، ووصفها البعض بالمتهتكة، وشعر كُثر بالتهديد على حياته "الفحولية" التي ترضخ فيها النساء لكلّ أمر، وترضى ما يُرسم لها. لكن مارينا أيضًا لها من ناصرها. التقطت فتيات صورًا لهن على دراجات هوائية في البيوت. دراجات صغيرة مستعارة من أطفال تضيق بأجسام نساء كبيرة وغضّة.
هناك معركة مع المجتمع والذكورية الطافحة فيه أكثر من قضيّة دراجة، فهناك العنف تجاه النساء، والزواج المُبكّر والتمييز في العمل
ورغم بساطتها وعفويّتها، شكّلت فكرة مارينا تحديًّا لبعض الفتيات للتعرف على المجتمع، ولتحديه. هكذا أخذت مارينا، التي لا تدّعي الإحاطة بالكثير، تتقاطر عليها الرسائل لاستشارتها في بعض التحديّات التي تحاول الفتيات القيام بها. ومارينا، خريجة كلية الزراعة، والرسامة التشكيلية التي تحاول شقّ طريقها، ومثيلاتها من العراقيات، لا تبدو حياتهن بسيطة أبدًا، لاسيما وأن السلطات تحاول خنقهن بالقوانين الرجعيّة، مثل قانون الزواج الجعفري (يسمح بزواج الفتيات بعمر 9 أعوام هلالية)، وفصل الذكور عن الإناث في الجامعات، وأخيرًا قانون العشائر الذي يحوّل المرأة إلى "شيء" يُمنح في بيوت الشَّعر القبلية.
"الدراجة الهوائية ليست طموحًا"، تقول مارينا، عالمة أن هناك معركة مع المجتمع والذكورية الطافحة فيه أكثر من قضيّة دراجة، فهناك العنف تجاه النساء، والزواج المُبكّر والتمييز في العمل، وهو ما تعمل عليه مارينا مع بضعة نساء لمحاولة فهمه ومناقشته، لكن الدراجة الهوائية بداية جديدة في سجال كبير بين سلطات العشيرة والدين والأحزاب الإسلامية ومجتمع يحاول الانعتاق من الوصايا البالية.
اقرأ/ي أيضًا:
"سودانيات ضد الحجاب".. اغتيال المعارِضات بالفبركة
نساء حوض الشهوات
كان للنساء شأن على هذه الأرض