هكذا كانت الليلة، فرّشتُ أسناني، رميتُ الكثير من البلغم المتراكم في صدري بعد محاولة قطعٍ أخرى للتدخين، دخلتُ دورة المياه، صعدتُ السلّم، التهمتُ الهواء الداخل بقوةٍ من شباك الحجرة المفتوح في هذه الواحدة ليلًا، أطفأتُ الإنارة مكتفيًا بشاشة الموبايل التي تعرض آخر فيلم حمّلتهُ اليوم عصرًا. الفيلم الذي يلخّص شيئًا من تجربة المُفكّرة اليهودية الالمانية حنة آرنت، دقائق بسيطة وتقطع الجو رسالة تصلني على "ماسنجر". الرسالة كانت من أحد طلبتي، يسألني فيها عن رأيي بنصوصٍ بسيطة لأحد أقاربه، مروان الراسب لأكثر من سنة ويحاول في الكتابة، كانت النصوص كالعادة خواطر بسيطة. لا أدري لماذا أردتُ اللقاء بهذا الـ(مروان) ربّما كان مشروعي الآخر سببًا، مشروعي الذي يقوم على التدريس في الكوفي شوبات، لطالب أو طالبين أو ثلاثة، لا أكثر، مجانًا بالتأكيد، كوني لا أفكّر بالمادة، بقدر ما أفكّر في ابتكار أسلوب يخصّ الطالب العراقي من خلال التجارب التي أقوم بها، بعيدًا عن نظريات وطرائق التدريس البريطانية أو الصينية أو السويسرية التي لا تجدي نفعًا؛ كون النظرية ابنة مجتمعها باختصارٍ شديد. ولا يمكننا أن نطبّق على الطالب ـ الحاصل على الضمان الصحي والاجتماعي والطالب الذي يمتهن العمّالة أو يدفع عربة خشبية في السوق ــ ذات النظرية، كما لا يمكن أن نطبّق هذه النظرية ذاتها على من يعيش يومه آمنًا مطمئنًا ومن يعيشُ يومه مهددًا بانفجار أو عبوة أو صاروخ أو رصاصة طائشة أو تهديد. هنا كانت الفكرة، وكان المشروع برفقة مروان. اتفقنا على اللقاء في كوفي في شارع الجمعية. تحديدًا على ضفة نهر اليهودية:
منار وتمارة ـ كوفي شوب PUBG
العبارة أعلاه خطّت بنشرة ضوئية بالأحمر في باب المدخل. كل ما في داخل الكوفي يشير للفن، الجدران من الخشب، المراوح والمكيفات مرتّبة بشكلٍ هندسي، المطبخ والصحيات في النهاية، في الركن الأيمن منضدة الكاشير وعلى اليسار تقف البرّادات التي تحوي المشروبات الغازية والماء، وكشك صغير من الخشب مخصص لصانع العصائر الطبيعية. الأغاني التي تصدح كلها من طراز (لُكْ لُكْ لُكْ.. ما تشبع من الــ لُك لُك) أو من فصيلة الـ( بس بس ميمو). الزبائن كثيرون والزحام دائمًا شديد، ودخان الأراكيل يملأ المكان كحمّامٍ بخاري. هنالك أكثر من عامل غير الكاشير الجالس بانتظار الحساب فقط، والإشراف على احتياجات الكوفي من فواكه ومياه ومشروبات غازية. من يديرُ الكوفي، هما شابتان، وكل الرجال البقية هم مجرّد عمّال. منار الثلاثينية الفارعة الطول، صاحبة الزي الرسمي والصوت العالي الذي يصدح من مدخل الكوفي للمطبخ، ما يقارب مسافة 12 م "اثنين امعسل ليمون ووحده تفاحتين للشباب عالسريع، واحد جاي واتلاثه كبجينو ، بطلين مي اهنا". تمثل منار الكابتن أو القائد الذي يدير كل شيء بانتظام كبير، رغم ذلك لا يمنعها هذا من مجاملة الزبائن وتحيّة المعاميل بالمصافحة وقبلة أو قبلتين. بينما تقتصر تمارة على إحضار الأراكيل والجلوس لخمس دقائق أو أكثر، والدردشة حسب ثقل الزبون ومزاجها. كانت منار ذكية جدًا وجدّية في التعامل مع الزبون، وبالتالي كانت تقطع أي موقف محرج أو محاولة تحرّش ببديهية عالية. بينما تمارة، التي تبدو أصغر منها ببضعة سنوات أقل نضوجًا منها وحكمة. كنتُ دائمًا ما أصلُ متأخرًا، لأجد مروان الاجتماعي الفظيع الذي أرجع منه بقصة جيّدة كل ليلة، ممّا يعيشه في يومه من مفارقات. حدّثني كثيرًا عن الزبائن وأجواء الكوفي وما يحصل، عن سائق الــGMC الذي يرتدي نظارات جعب استكان ويلتزم بدشداشة ثابتة قذرة، ويتلفُ كل ما يحصل عليه في الكوفي، بينما لا يقدّم لعائلته التي تسكن التجاوز سوى (افلوس العلّاكة). حدّثني عن الرهانات وتشجيع دوري الأبطال أو الدوري الإسباني، عن المثليين ومن يستلغونهم، عن عناصر الاستخبارات الذين يكتفون بسرد آخر إصدارات الكلكسي وطعم المعسل، عن ذلك الذي أغرى تمارة بمبلغ 100$ دولار من أجل ساعة برفقته في السيارة لتقذفها في وجهه بارتباك هاربة للمطبخ!
عوانس: لم نكن نستطيع البقاء في مكان واحد دائمًا. كان اقتراح الكوفي السابق من قبلي ليقدّم مروان مقترحه الآخر، والذي لم ندرس فيه سوى محاضرة واحدة وعدنا أدراجنا. كان كبيرًا جدًا لدرجة أن تضيع وأنت تدخله أول مرة. كل المقاعد هي كنبات من الجلد خاصة بالبرجوازيين كرهتها جدًا بألوانها الصاخبة. الشاي لا يقدّم بصورة جيّدة كما في الكوفي السابق. الزبائن هنا يشعرونا بالاشمئزاز كونهم متطفلين على ما نمارسه من دراسة لأسلوب النفي والاستفهام والتعجّب. أما النادلات فلم يختلفن كثيرًا. كنّ كبيرات في السن ولا يقدّمن الطلب، كنّ يحاولن الحصول على فرصة زواج قبل فوات القطار!
شجارات الـ12 pm
ذلك البدين الذي تعرّفتُ عليه في كوفي أسبريسو الكائن على طريق بغداد قرب بنزين خانة حمورابي، لا أزالُ أتذكّرُ مواقفهُ المضحكة والانفعالية كريالي باب أوّل ضد الليفربوليين أو الكتلونيين أو أي خصم آخر. كانت مباراة صعبةً للولهة الأولى خصوصًا بوجود ثلاثي الليفر صلاح وفرمينو ومانيه، الذين يشكّلون خط الهجوم المباغت لليفربول. كان يجلس قربي برأسهِ الكبير ويصرخ براموس أن يقوم بعرقلة صلاح كلّما اشتبك معه ليخرج ويتم حسم المباراة. الرجل الإسباني لم يكّذب خبرًا، واشتبك مع المصري محمد صلاح اشتباكًا عنيفًا أدّى لإصابة كتف الأخير وتركه المباراة. كان صديقي البدين لحظتها يقفُ أمام جماهير ليفربول في الكوفي راقصًا بقمجي الأركيلة مودّعًا الحاج صلاح بعبارات تهكّمية (وداعًا أبو مكّة.. ابرينه الذمّة خوية.. كود لاك أبو مكّة.. مارسيلو راح ... خواتهم والكعبة). هكذا كانت تنتهي المباريات دائمًا برقصته بالقمجي أو تركه الكوفي بعد خسارة الملكي. كنتُ أتواجدُ هنا للكتابة قبل بداية المباراة قبل ساعة تقريبًا، أو استماع الموسيقى بالهيدفونات والتدخين قليلًا. تلك الليلة لم أنتبه للوقت حتى ابتدأ منتصف الليل. العاملون جاملوني ولم يخبروني بمضيّ الوقت. أخيرًا انتبهتُ بعدما بدأ أحدهم بتنظيف المكان. كان صوتها يرتفع بوجههم بانفعال شديد. كانوا ثلاثة رجالٍ، وكانتْ بمفردها تؤنّبهم بجهدها اليومي وتطالب بأجرة التكسي التي استقطعها منها مسؤول الكوفي هذا الأسبوع. بينما أشعلتُ سيجارتي، ووضعتُ الهيدفون في أذني، كان صوتها خلفي يلعلع بقوة، حتّى استأجروا لها التكسي وأسكتوها.
بلاهة بجمال فريد
استيقظتُ قبل الثامنة صباحًا ببضعة دقائق، أكملتُ ارتداء الملابس بسرعة متوجهًا للثلاجة، أخذتُ التفاحة الضخمة، غسلتها ورميتها في جيبي. انطلقتُ خارجًا بينما كانتْ أمي تحاول إقناعي لتناول الإفطار. كان كل شيء بارد وفارغ في الشوارع بسبب حظر التجوال في هذا الصباح الشتائي. بدأتُ أمشي بينما تقضم أسناني التفاحة بنهم، اتجهتُ للسوبر ماركت في رأس الشارع لشراء كارت تعبئة رصيد الموبايل. تمّت التعبئة واتصلتُ بصديقي حسب الاتفاق والموعد المحدد بيننا. لم يتم الرد لثلاث مرّات وعند الرابعة أيقنتُ أنه لا زال نائمًا. استغربتُ من الكوفي والمطعم الشعبي المفتوح. استغربتُ من أفراد خلية الأزمة الذين يفطرون بالباقلاء والدهن في هذا المطعم. قررتُ الهجوم وجلستُ على منضدة بمفردي بعيدًا عن ضجة المكان. كانت تدور مثل مروحة على كل منضدة ببنطالها الكوباي الأسود والحذاء الرياضي والكوت الأزرق. أما الموبايل فقد علقتهُ في رقبتها. هكذا تتصفّح مستندةً على الحائط، تؤدي الطلبات، تبعد خصلات شعرها الأسود الخفيفة، تضبّط الكاسكيتة فوقها بين لحظة وأخرى. تميل للبلاهة جدًا والعبط، بجسدها المكتز تقبل على الزبون تؤدي التحية مع السؤال المباشر (اشتطلب؟) تستدير وهي تشحط بحذائها كطفلة وتصرخ (واحد باكله عمّي). أنهيتُ الصحن بسرعة لأكرّر اتصالي بصديقي. قرب المغسلة داخل المطعم كان الكثير من سائقي التكسي، العمّال، العسكريين. وأنا أحاول القضاء على بقايا الدهن في يديّ برغوات الصابون والماء، كنتُ أصغي باستمرارٍ لعبارات التحرّش بها بحجّة الطلبات بينما تضحكُ ببلاهة طفلةٍ، طفلةٍ لا تعلم حجم الكارثة التي قد تحصل بعد أوّل حيوان سيقتربُ منها!
برفقة طفلتها
كالعادة قمتُ بتغيير المكان مرةً أخرى. لم يختلف الزبائن كثيرًا في تعاملهم وأجواءهم واهتماماتهم. الشيء المختلف الوحيد هو عاملة الكوفي النحيفة جدًا والتي تحاول أداء عملها كمن تتسابق مع الزمن. لم تكن تحوي الكثير من التفاصيل المغرية، كونها ليست سوى جلد على عظم. كما أنها تقوم بكافة الأدوار من توزيع طلبات الشاي وملحقاته إلى الأركيلة والعصائر. ما لفت انتباهي هو تلك الطفلة التي تركض خلفها دائمًا، وتحاول الإمساك ببنطالها من الخلف. كانت تغلق فمها بقطعتي بسكويت أو أشياف تفاحة طازجة. يبدو أن بعض الزبائن لم تعجبهم هذه الخردة التي تدور حولهم، فاكتفوا بالمزاح السخيف مع الطفلة، والتي غالبًا ما تبكي أو تصرخ بينما تحاول أمّها إبعادها عن اللحاق بها، خوف فقدان وظيفتها، وكون هذا الخراء الذي يُسمّى زبونًا دائمًا على حق!
اقرأ/ي أيضًا:
المراهقون العراقيون يدمنون النرجيلة والوقت الضائع
كتلة الفضيلة تطالب بإغلاق مراكز المساج: راقبوا المقاهي كذلك وحدّدوا خدماتها!