الشبهة التي تنتشر عن "النموذج العماني" وعن "حسناته" السياسية والاجتماعية تحتاج إلى توضيح. وبالطبع هذه الشبهة لا تطال أهلنا العمانيين، وإنما عن النظام السياسي نتكلم، بل عن الأنظمة العربية التي لا حول لها ولا قوة، بل لا تمتلك رفاه الاختيار، حتى في العمالة! لذا أن الأمثال "الحسنة" التي تُضرب بحق النظام العماني توهمنا كما لو أن هذا النظام اختار لنفسه هذا الحياد.
القوة المهيمنة هي من ترسم دور العميل وماذا يكون، وهي لا تبخل عليه بإعطائه هامش الحرية والتسليح وخوض الحروب وقتل المعارضين
كثرة المرويات الشعبية والانتقائية والانطباعية عن السياسة الدولية وكيفية إدارتها تشوش علينا رؤية الواقع، ومن هذا التشويش هو "النموذج العماني" كما ذكرنا. تصور لنا هذه المرويات الشعبية أن هناك رجل "حكيم" استطاع أن يفرض نموذجه على العالم، فمن هنا لا نسمع ضجيجًا في عمان، ذلك أن المجتمع العماني متصالح مع نفسه ويحظى باهتمام الدولة، ويتمتع برخاء نسبي وتنوع طائفي وقوانين عادلة وحياة هانئة.
اقرأ/ي أيضًا: عن العدالة والاستبداد في واقعنا العربي
مرة أخرى نرجع للنموذج الآسيوي لنفهم لماذا هناك دول مستقرّة وأخرى مضطربة. لو لم تكن الحرب الباردة وصعود الصين لكانت اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان في وضع آخر، فقد أنيط بها مهمات إستراتيجية، وهي أن تبقى "طوقًا عازلًا" أمام صعود الصين. السعودية والإمارات كذلك - مع الفارق وطبيعة الدور والوظيفة المكلفة بها - تصبح طوقًا عازلًا في وجه النهضة العربية وحرق المنطقة بمزيد من المؤامرات والحروب الأهلية ودعم الجماعات المتطرفة من قبلهم.
القوة المهيمنة هي من ترسم دور العميل وماذا يكون، وهي لا تبخل عليه بإعطائه هامش من الحرية والتسليح وخوض الحروب وقتل المعارضين، مادام يشكل فائدة إستراتيجية لها.
إيران وتركيا، مثلًا، لا توجد مصلحة في تهديمهما كليًا، فلا بد للإبقاء عليهما كأسوار عازلة للتمدد الروسي. الأمر ينطبق كليًا على صدام حسين، فقد سحق هذا الرجل قرية بأكملها بالسلاح الكيميائي، لكنه كان صبيهم المدلل آنذاك، فاقتضت الضرورة الكفر بالإنسانية وحماية صدام، وأصيب العالم وقتها بصمم مطبق، ولم نسمع تصريحًا "إنسانيًا" لـ"الأسرة الدولية". ربما لو ماتت غوريلا في أفريقيا لكانت المعادلة مختلفة. المهم في الأمر، أن صدام حسين في نهاية المطاف ألقي القبض عليه مذلولًا في حفرة من قبل حلفاء الأمس وتحول إلى مجرم حرب. ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل أن التنظيمات الإسلامية التي كانت معادية لـ"الشيطان الأكبر" أصبحت من الأصدقاء، والشريعة الأمريكية تجب ما قبلها؛ فأعداء الأمس أصدقاء اليوم، بشرط واحد، وهو أن يضحوا باختياراتهم لصالح أمريكا. معنى ذلك أنهم لا يمتلكون ترف الاختيار.
إذن، فالرخاء الاقتصادي والاستقلال السياسي والاجتماعي ليس خيارًا متاحًا في منطقتنا مالم تحدده القوة المهيمنة، وماهو الدور والثمن الذي تدفعه لتدخل في نادي "الأصدقاء". فلا "الحكمة" ولا أي نموذج يمكنهما أن يشفعان لأي "حكيم" فيما لو فكر أن يتخذ سياسات تجري بالضد من رؤية المهيمن الإستراتيجية، أو توحي للنظام الدولي على أنها خيارات مستقلة، فحينئذ تتحول عمان إلى أرض خربة. فالعالم بستان كبير للقوى الإمبريالية ومناطق نفوذ موزعة وخطط مرسومة سلفًا، ما أن تخرج من هذا النفوذ فستجد نفسك في محرقة عظمى.
سحق صدام حسين قرية بأكملها بالسلاح الكيميائي، لكنه كان صبي القوة المهيمنة المدلل آنذاك، فاقتضت الضرورة الكفر بالإنسانية وحماية صدام
إن المعيار "الصالح" في منطقتنا هو قربك من إسرائيل وما تقدمه لهذه الدويلة من فروض الطاعة والولاء. لكن قبل التفكير في هذا المعيار، فلننظر إلى أصدقاء إسرائيل في المنطقة، فلننظر إلى أصحاب "المعاهدات" و "الاتفاقات"؛ فلننظر إلى جماعة كامب ديفيد وأوسلو، ماذا ربحوا من هذه المسرحيات الفاشلة؟ فالموضوع لا يتعلق بحكمة زعيم عربي، ولا برجل سلام مٌتَخَيَّل، وإنما يتعلق بهذه "الأسرة الدولية" التي تجعل من السيسي دكتاتورها المحبب حسب تعبير ترامب، ومن شيخ الإمارات دبلوماسيها المفضل، لكن لو قرب حتف هؤلاء السياسي، فلا أسرة ولا حكمة ستشفع لهم، فالتسويات والموازنات أهم من كل أطفال العراق وسوريا واليمن.
اقرأ/ي أيضًا: