قتلتنا الرِدّة.. قتلتنا الرِدة.. إن الواحد منّا يحمل في الداخلِ ضدّه.. مظفر النواب.
ما نجهله نخافه وما نخافه نحاربه، وما نحاربه ينبغي علينا أن نحشّد ضده معاركَ مُفتعلة، وسرديات مزيفة. ولهذه السرديات جمهور غفير من المعٌذَبين بأوهامهم. أزعم أن هذه الصورة تمثّل نشاطًا يوميًا في مجتمعنا العراقي الذي اعتاد منذ زمن طويل على عبودية السلطة. ذلك أن الشعوب التي تصطلي بنيران الحروب وعبث الاستبداد، تسقط في هوّة الفصام والصراع مع أشباح مُتخَيَّلَة حتّى، ومن ثم ينتهي بها الحال لاجتراح ديانات شعبية تستند على تأليه الرمز. والشعب العراقي نال الحصة الأكبر من هذه المعاناة المروّعة، وهو لم يصحوا بعد من ذاكرة الاستبداد. وعادة ما تسعى الشعوب المقهورة للخلاص، وفي هذا الأخير تكمن الأخيلة الخصبة والأوهام التي تستذوقها الذات المُعَذَبَة! ومن ضمن هذه الأوهام البحث عن مشاكل لا وجود لها في الواقع، مشاكل هي أقرب لطواحين الهواء منها إلى القضايا الواقعية. وقد كانت حصة الجمهور المؤمن وخصومه من هذه الطواحين كبيرة وتثير شهية الانتهازيين.
يندر العثور على جماعة دينية في العراق تعطي لحقوقها المُستَلَبَة مساحة في تفكيرها، لكنها ستثور ضد أي حركة اجتماعية تدعو للتغيير
ولأن مواقع التواصل الاجتماعي فضاء واسع للهلاوس والأوهام، ومرآة عاكسة لسمومنا الذهنية، وجدت بعض الفئات الاجتماعية ملاذها الآمن في هذا الفضاء الأزرق، واستحدثت آليات جديدة للصراع المفتعل. هذه المرة وجد الجمهور المؤمن مساحة مثالية لتأصيل الصراع الوهمي الجديد، لأنه يضمن جمهورًا واسعًا من المنخرطين بهذه الهلاوس، ويعبّد الطريق نحو الانتخابات الجديدة، وأعني بهذه الأوهام بالذات، الصراع بين الدين والعَلمانية كبرنامج انتخابي ناجح، وصناعة خصم يحفزّ عدائيتنا بشكل مضاعف، ويبني حجابًا سميكًا بيننا وبين مشاكلنا الحقيقية. لذلك لا نستغرب من متدين يسكن في حي فقير لا يصلح للعيش البشري، يتجاهل كل تفاصيل حياته المُعَذَبَة لينظر للعَلمانية على أنها شر مستطير ومشكلته الأساسية، فالمهم هنا الاستمتاع بطعم الوهم واجتراح آليات هروب تضمن لنا لذة الوصال بولائنا العشائري والطائفي، فهذا يكفي! أصبح الشخص المثقف، في نظر هؤلاء المغلوب على أمرهم، عَلماني، ومن يقرأ الأدب والفلسفة والفن عَلماني، والملحد والإباحي وشارب الكحول عَلماني، وكل ما هو منحرف ومتحلل رديف للعَلمانية! ببساطة شديدة: العَلمانية هي المشكلة!
اقرأ/ي أيضًا: يوميات من دفاتر السلطة الفاشلة
وبما أن المشكلة في العراق أكبر من الدين والمتدينين كما أسلفنا في مقالتنا السابقة (ولا نذكر المتدينين إلا لكونهم يشكّلون أغلبية تحدد مصيرنا السياسي)، فقد كانت حصة غير المتدينين من أحلام اليقظة والفوضى في سجل الأولويات كبيرة؛ لقد حدد هؤلاء أصل المشكلة، وهي غياب العَلمانية وهيمنة التنظيمات الإسلامية على السلطة السياسية في العراق. كما لو أن تاريخ العراق القومي أو اليساري تاريخ مثالي. لا نختلف عن التفاوت بالدرجة، لكننا قد نتفق على حجم الاستبداد والتآمر والانقلاب والدم المستباح في تاريخنا السياسي، ولم يختلف بين هوية وأخرى، ذلك إن مرض العراق المزمن هو السلطة والتنكيل بالخصوم بافتعال دعاوى لا أصل لها كالتآمر على الحزب والثورة مثلًا. المهم، فطاعون الهلاوس الذهنية تنتشر عدواه بين كل فئات المجتمع العراقي، هلاوس وضيفتها اختراع صراعات لا واقع لها على الإطلاق إلا في أذهان المغلوب على أمرهم، وفي نهاية المطاف يقطف ثمارها القائمون على السلطة.
لماذا يتجاهل الجمهور المؤمن كل هذا الخراب الذي أحدثته القوى السياسية ويزهد عن المطالبة بحقوقه، ولا يحرك ساكنًا لمحاسبة ممثليه في البرلمان؟ لأنه جمهور عقائدي لا تهمه أسئلة الحقوق والعدالة الاجتماعية والحرية وغيرها، بقدر ما يهمه الولاء لرموزه الطائفية والعشائرية. ولذلك يندر العثور على جماعة دينية في العراق تعطي لحقوقها المُستَلَبَة مساحة في تفكيرها، لكنها ستثور ضد أي حركة اجتماعية تدعو للتغيير، بل ستكون هذه الجماهير مَلَكية أكثر من الملك. لماذا يتجاهل الجمهور غير المؤمن معضلة غياب الدولة ويتخذ من الدين والعَلمانية مادة خام لصراعه المفتعل، ويتجاهل أن بناء المؤسسات أولًا هو الأولوية القصوى في العراق؟ لأنه جمهور لا يحسن تحديد مشاكله الحقيقية، وقد فشل فشلًا ذريعًا في تحديد المشكلة الأساسية، فسوَق لنفسه بطريقة كاريكاتورية وعنوان فضفاض اسمه "المدنية"، كما لو أن الجمهور المؤمن لا يفهم أن هذا التوصيف يستبطن العلمانية! ليس هذا فحسب، بل فشل الجمهور"المدني" في تنظيم نفسه وتوحيد شعاراته. بدلًا من ذلك بالغ في حجمه وأفرط في ثقته بذاته وتصور أن مقاليد التغيير بين يديه، لكن سرعان ما كشف عن حجمه وإمكانياته وخبراته المتواضعة، وخسر نفسه والمتعاطفين معه، ليتفرق بعدها إلى أفراد تائهين لا يعلمون ماذا يريدون بالضبط، ذلك أن الذهنية وطرق التفكير واحدة مع اختلاف الأشكال والألوان؛ فالأحذية اللمّاعة، واللباس الأنيق، والألوان الفاقعة لم تستر عوراتنا، فظهرنا للملأ عراة حفاة لا نتملك سوى أوهامًا براقة تكفل لنا تميّزًا سطحيًا لا ينفذ إلى جذر المشكلة.
المشكلة في العراق هي خراب المؤسسات، وتضخيم السلطة، وهيمنة الولاءات العشائرية والطائفية، وتقسيم العراق إلى ثلاثة شعوب! باختصار: حضور السلطة وغياب الدولة، فلا عَلمانية ولا هم يحزنون! ومن يتمتع بأدنى احترام لعقله (إن وُجد!) أن يضع نصب عينية هذه المشكلة، فليمرن نفسه على طرق التفكير الواقعي، ويختصر أحلامه الشاسعة، وخصومه المٌفتَعلين، بهذا المطلب النبيل: دولة المواطنة، ومن ثم يحق له أن يضع حدود هذه الدولة وسعتها العلمانية، فالنماذج العلمانية تختلف باختلاف السياق الثقافي، وحتى ذلك الحين فلتكن دولة المواطنة هي همنا الأقصى وما عداها فأضغاث أحلام.
اقرأ/ي أيضًا: