ترى ما الذي يجعل بعض المتعلمين في بلادنا، وخصوصًا أصدقاء أفيخاي أدرعي، يستميتون دفاعًا عن إسرائيل "الديمقراطية"، وتتحطم قلوبهم لمجرّد سماع نقٍد لاذٍع ضدها؟. والغرابة هنا جذرها ليبرالي!، بمعنى أن بعض هواة الليبرالية بنسختها العربية المتمولة، الذين يتناسلون في مواقع التواصل، تتضاعف مأساتهم حينما يتناهى إلى سمعهم دفاعًا تجاه الفلسطينيين حتى لو اقتصر التضامن معهم بالكلمات، علمًا أنهم لا يتسامحون ضد التمييز القائم على أساس ديني وعنصري، إذا كان الأمر يتعلّق بالإسلام طبعًا، إذ يمكنهم أن يجدوا عشرات الحجج ليجادلوا بها حول الشيطنة المطلقة للثقافة العربية الإسلامية، فالمهم في الأمر إن كل ما يحدث للعرب والفلسطينيين هو "استحقاق" لهم وليس مشمولاً بالتبريرات التي تُساق عادةً "للشعب" اليهودي المسالم.
ما هو السلام الذي يرجوه أبناء نسخة "الليبرالية" المتمولة؟ إنه سلام على طريقة بن سلمان، سلام "تكتيكي" يحتاجه الصهاينة
طبيعيُ جدًا أن يبرر بعض المتعلمين العرب عدم فصل الدين والدولة في إسرائيل وتمسّك اليهود بالآيدلوجيا الصهيونية التوراتية. المهم نقد الإسلام السياسي!. والمهم أنّهم يكرهون السعودية، لكنّهم لا يكرهون من يُسيّر السعودية، يكرهون طالبان، ولا يكرهون من جنّدهم. يكرهون مقاومة الاحتلال، لكنّهم يحبون الحرية!. ماعدا ذلك كل ما يجري هو استحقاق للعرب والفلسطينيين.
ضمن هذه المعادلة السخيفة، تغدو كل الشعوب التي حطمتها الولايات المتحدة وغزتها بعقر دارها وأشاعت الإرهاب فيها، تستحق ذلك: الشعب الياباني يستحق القنبلة الذرية، الشعب الفيتنامي يستحق تلك الحرب الطاحنة، الحصار الاقتصادي المنحط يستحقه الشعب العراقي، وتشريد الشعب الفلسطيني "استحقاق"، لكن هذه المرّة ليس استحقاقًا من الله، حسب السردية الدينية، بل من أرباب الديانة الجديدة وعبيدها الجدُد.. وهكذا إلى أن نصل، ضمن "نظرية الاستحقاق"هذه، إن ثلاثة أرباع الكرة الأرضية تستحق ما يحدث لها. لكن لو توخّينا الدقّة: إن تاريخ الاستعمار لشعوب العالم الثالث مستثنى ويأتي بالدرجة الثانية من لعنات العبيد، المهم هنا أن يستثنوا الشعب الفلسطيني من صلواتهم وتطبيلهم.
وحدهم الصهاينة والأمريكان من يستحقون كل فروض الطاعة والولاء. وظيفة هؤلاء العبيد اختراع طقوسٍ جديدة للديانة الصهيونية - الأمريكية، ومنها: إنّ العرب شعوب لا تستحق العيش، وإنّ "الإسلام السياسي" - التقليعة المُحبَبَة - هو سبب دمارنا، وأن الحل هو بنزع سلاح المقاومة، والعيش بسلام بما تبقّى من الأراضي الفلسطينية، ويغدو الاستيطان "واقع حال". لكن ما هو السلام الذي يرجوه هؤلاء؟ إنه سلام على طريقة بن سلمان، سلام "تكتيكي" يحتاجه الصهاينة.
ليس حبًّا بالسلام بالتأكيد، ولا احترامًا للعرب، ولكي نكون أمناء مع محبي إسرائيل ينبغي استنطاق الأدبيات الصهيونية عن ماهيّة السلام الذي تنشده الآيدلوجيا الصهيونية، وكما يبدو أن هذا "السلام" يغازل وجدان العبيد ابتداءً من الأنظمة العربية "البراغماتية" ومرورًا "بموظفي السفارة الإلكترونية" على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصولًا ببعض الليبراليين على الطريقة العربية، التي تشبه ليبرالية ابن سلمان المفاجئة.
في كتابه "بيان في النهضة والتنوير العربي" ينقل المفكّر طيبي تيزيني تصريحًا لدافيد بن غوريون تناقلته الصحف المحلية والغربية يومذاك، وهو كالآتي "إن اتفاقًا مع العرب أمر ضروري لنا، وليس من أجل السلام. إذ لا يمكن أن نبني البلاد في حالٍة من الحرب الدائمة، لكن السلام هو وسيلة. أمّا الهدف فهو التحقيق المطلق للصهيونية". هذا هو السلام الذي تنشده الأنظمة العربية المتهالكة، ويحكمون الخناق على المقاومة، لأنّها لا تساعد في تعميق عملية "السلام" على طريقة بن غوريون، ولا تحقّق الحرية المنشودة!.
وعلى ما يبدو أنهم حققوا حلم ثيودور هرتزل يوم وجّه كتابًا إلى وزير خارجية بريطانيا بتاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر 1902، يقول فيه "في لحظة تستطيع بريطانيا أن تعتمد على عشرة ملايين يهودي مخلصين لها في جميع أنحاء العالم. وسيكون لبريطانيا عشرة ملايين عميل من أجل عظمتها وسيطرتها. وهذا الولاء لابد أن يكون على الصعيدين السياسي والاقتصادي".
لماذا لا يتحقق الحلم الصهيوني مادام هناك "قطع غيار" أمثال بن سلمان والسيسي وأمثالهم؟ إنّهم الهراوات الإمبريالية المأجورة ضد الفقراء، والمصدّات المنيعة التي تقف حائلًا ضد أي حراك شعبي ينشد التغيير
لماذا لا يتحقق الحلم الصهيوني مادام هناك "قطع غيار" أمثال بن سلمان والسيسي وأمثالهم؟ إنّهم الهراوات الإمبريالية المأجورة ضد الفقراء، والمصدّات المنيعة التي تقف حائلًا ضد أي حراك شعبي ينشد التغيير.
يحلم بعض الطيبين بتشكيل لوبي عربي يماثل اللوبي الصهيوني، ذلك إنّ الولايات المتحدة في نهاية المطاف دولة مصالح، فيمكننا التأثير والضغط على أصحاب القرار. هذه النوايا الطيبة مغرمة بالأطروحات التبسيطية التي لا تفسر الواقع كما هو بقدر ما تفّسر أمزجتهم الشخصية. هذه الأحلام تنطلق من باب "إسقاط الواجب"، والحقيقة خلاف ذلك بالتأكيد؛ فإن "الضمير العالمي" لا يوجد إلّا في الأذهان، فما يُوجد هو سياسات القوّة التي تقسّم العالم إلى"محور خير" و" محور شر"، "حضارة" في مواجهة "البربرية" طبقًا لأرباب الديانة الصهيونية، وما على العبيد سوى الإمضاء، أو يندرجوا في قاموس الصهيونية الرجيم.
يقتبس تيزيني من كتاب "الدولة اليهودية" لهرتزل، "إن دولة اليهود في فلسطين يجب أن تشكّل جزءًا لا يتجزأ من سور الدفاع عن أوروبا في آسيا، وقلعة للحضارة في مواجهة البربرية. سنحاول إخراج السكّان الأصليين عبر الحدود، وأن نجد لهم عملًا في البلاد التي يتم طردهم إليها، وأن ننكر عليهم أي عمل في بلادنا".
ثمّة خطاب بدأ ينشط في مواقع التواصل الاجتماعي، وله جمهور لا يُستهان به. خلاصة هذا الخطاب: لماذا لا ندع الصراع "العربي الإسرائيلي" ونتجه لبناء مستقبلنا المظلم، ونسعى لبناء بلداننا أسوةً بما فعله الصهاينة، فقد أصبح هذا الموضوع "دقّة قديمة"، نريد العيش بلا نزاعات.
نقتبس من تيزيني نصّين بالغين يسلطان الضوء على طبيعة "السلام" الذي ينشده الحالمون، يوضّح طبيعة التوجهات الإمبريالية تجاه منطقتنا. الأول لرئيس "مركز السياسة الأمنية" وأحد مؤسّسي "القرن الأمريكي" فرانك غافني، يحدد فيه سبع مهمات للمرحلة العالمية الجديدة، بعد فوز الرئيس بوش في الولاية الثانية. وقد جاء في مقال نشره في مجلة "ناشونال ريفيو" تشرين الثاني/نوفمبر 2004، كتب فيه "الأولى وتتحدد في تدمير المقاومة العراقية؛ والرابعة تقوم على الدخول "في الحرب العالمية الرابعة" لإنهاء كل معارضة أو مقاومة لأمريكا؛ والخامسة وتتمثّل في استمرار كلي في دعم إسرائيل وحمايتها من أعدائها في الولايات المتحدة ذاتها". ويتهم غافني، يقول تيزيني، كل من يسعى لتدمير هذه العلاقة البنيوية بأنهم "يعملون على تدميرنا، حتى يرغبون في تدمير إسرائيل".
والثاني الذي قدمه الجنرال موشي دايان "العَلماني" بعد هزيمة 1967، وهو يستعرض الآيدلوجيا الصهيونية التوراتية، الأمر الذي جعل الحاخام الأكبر في إسرائيل، أن يعتبر دايان بأنه قدم أفضل فهم للتوراة.
قال دايان "إذا كنّا نمتلك الكتاب المقدّس، وإذا كنّا نعتبر أنفسنا شعب الكتاب المقدّس، فإنّ علينا بالمثل أن نمتلك أرض الكتاب المقدس.. أنا هنا لا أعرض برنامجًا سياسيًا، وإنما أعرض أمرًا أكثر أهميّةً، أعرض الوسائل لتحقيق حلم الآباء. وعلى الدول الأجنبية أن تفهم أن سيناء ومرتفعات الجولان ومضيق تيران وجبال غرب الأردن.. تقع في قلب التاريخ اليهودي".
هذه الحقائق التي نقدمها هنا ليست لمحبي "الإنسانية"، ولا لجماعة "العَلمانية هي الحل"، فهؤلاء لا يقدمون ولا يؤخرون، وإنما للجيل القادم الذي سيواجه تحديات جسام في المستقبل القريب
هكذا إذن، ليس من حقنا الدفاع عن قضايانا المصيرية، فهذه أصبحت "دقّة قديمة"، وخطابات "قومجيّة" بالية، و"نظرية مؤامرة" لا وجود لها في الواقع، حتى لو جاهر بها الصهاينة علنًا. بالطبع أن هذه الحقائق التي نقدمها هنا ليست لمحبي "الإنسانية"، ولا لجماعة "العَلمانية هي الحل"، فهؤلاء لا يقدمون ولا يؤخرون، وإنما للجيل القادم الذي سيواجه تحديات جِسام في المستقبل القريب، الجيل الذي سيشهد كيف تضيع الأرض والتاريخ والهوية أمام ناظريه، جيل لا يقايض حريته بمقولات وهمية، ولم تعد تطربه مقولة "الحزب القائد".
اقرأ/ي أيضًا: