24-يوليو-2020

تبدو الديانة الشعبية متأرجحة ومتذبذبة بين الدين والدنيا (فيسبوك)

حين تدرك الدولة أهمية القانون الأخلاقية فأنها تتصرف كممثل لوعي المجتمع لذاته كعموم، ووعي المصلحة العامة لذاتها  كخير عام. وتستغني عن وظيفة الدين كأيديولوجية تبريرية، وهو ما قد يستدعي استخدامه كأيديولوجية تبريرية ضدها. وفي الحالتين تضيع الأخلاقية الدينية وتخضع للسياسة بما في ذلك من نشوء ظواهر تدين لا ترى في الكذب، أو القتل، أو غيره مشكلة ما دامت في خدمة الدين كأيديولوجية".عزمي بشارة: الدين والعلمانية في سياق تاريخي (ج1).

منذ عقود يراوح الشعب العراقي في نفس المكان. فأنماط الحياة هي ذاتها لم يطرأ عليها أي تغيير يُذكر، وظلت القبيلة، والطائفة، والسلطة السياسية المستبدة، هي المكونات الرئيسية التي تشكل البنية الثقافية السائدة حتى هذه اللحظة. وتوفر هذه البنية أنماط حياة مطابقة لمكوناتها، والنتيجة المنطقية هي شيوع ثقافة التخلف. لم تحدث قطائع تاريخية بين هذه المكونات، وظلت كما هي كسلسلة متصلة، فنحن نتوارثها جيلًا بعد جيل، وبلغ التراكم أقصاه في لحظتنا الراهنة. وحينما نقول تراكم، لا نقصد به حدوث تغيرات ملموسة في البنية الثقافية، أي لم تحدث نتائج كيفية؛ فلا تناقض، ولا صيرورة، ولا مركب يجمعها! إنها صيرورات منفلتة لا تفضي إلى حدث نستلهم من خلاله ثقافة تقدم. بل هي للفوضى أقرب منها للتنظيمات الاجتماعية الحديثة، و كل شيء مشدود إلى الماضي بحنين واشتياق، حتى بات الحنين للأيام الخوالي أمر معتاد في أدبيات العراقيين اليومية. فمن يفتقر إلى نمط ثقافي يشجع على التقدم، ويتعايش مع أنماط ثقافية تشجع على التخلف منذ زمن طويل، لا يمكنه التعايش إلّا بنقاطه المرجعية المعتادة، لأنها تشكل هويته: ماضيه وحاضره وربما مستقبله.

الدين الشعبي يستثمر أدوات الدولة الحديثة وقيمها الديمقراطية لصالح كثافته البشرية، لكنه لا يقيم لها وزنًا إذا تعلّقت بالآخرين

لا توجد إرادة واضحة للتغيير للغياب شبه الكلي للنخب السياسية الفاعلة، خصوصًا أن بعض النخب الثقافية، وهذا معوّق آخر، فضّلت السير في ركاب السلطة، مفسحةً المجال لأي حركة فوضوية تملأ الفراغ السياسي والاجتماعي، حتى باتت العقائد الشعبية تعلو على كل صوت. وفي الجانب الآخر، أخذت بعض الفئات الاجتماعية من جيل الشباب على عاتقها حمل مشعل التغيير، غير أن مسيرتها ستطول في ظل انعدام التضامن الاجتماعي وقهر السلطة وشراستها. وكنتيجة لذلك، فإن إرادة الخراب تطغى على كل شيء وتسري في كل شيء. التراكم الوحيد الذي نشهده بوضوح ويفرض نفسه بقوة، هو شيوع نمط من أنماط التدين الشعبي الذي يحفل بالطقوسية، ولا يفسح المجال للعمق الروحي الذي تتميز علاقته بانشداد الفرد تجاه المطلق بمعزل عن أي محفزات سياسية أو أيديولوجية. إنه نمط تدين يخلق بيئة متصالحة مع الاستبداد ويطيح بأي نمط ثقافي جديد يتخذ من التقدم نقطة شروع للتغيير.

اقرأ/ي أيضًا: في راهنية مشروع عزمي بشارة عربيًا

مكمن الخطورة في سلوك الجماعات المتدينة لا ينبع من كونها جماعات ذات سلوك اجتماعي محدد، كأن تكون ذات نظرة أخلاقية معينة، أو تخضع لمحددات تفرضها رموز الجماعة من داخلها. فهذه الأمور تندرج في سلّم التقاليد، وتترجم العمق التاريخي للجماعة المتدينة. إن انخراط الجماعة في سلك التدين الشعبي يبرز مشكلة خطيرة. غير أنها، يقول عزمي بشارة، في كتابه (الدين والعلمانية في سياق تاريخي) (ج1)، "ليست المشكلة في العلاقة بين الدين والأخلاق في التدين الشعبي، ولا حتى براغماتية المتدين وانتهازيته إذا لزم، إنها تكمن في تغلّب الجانب العقدي على الأخلاقي لدرجة تسويغ ارتكاب أعمال غير أخلاقية بتبرير عقدي، أو تحويل الدين إلى طقس جماعي فحسب، بل إلى هوية وعصبية جماعية، بحيث يغلب فيه الطابع العصبوي على البعد الأخلاقي". (ص:169- 170). فالتدين الشعبي هو وسط لإمكانات متعددة؛ يمكنه أن يتحول إلى قوة ضاربة بيد الدولة، أو إلى قوة مارقة أو مقاومة ضد الدولة وتقاليدها، ويمكنها أن تتحول إلى جماعة سياسية. فهو يكيف نفسه حسب المقتضيات العقائدية المرسومة له. باختصار أنها وسط اجتماعي مهيأ ثقافيًا وسيكولوجيًا لتقبل النزعات الأصولية وتعزيزها، بحسب تعبير فالح عبد الجبار. بمعنى أن البنية الذهنية والنفسية للتدين الشعبي تتلاحم فيها مكونات الانفعال العاطفي الذي يترجم نفسه دائمًا إلى شعارات حماسية تغيب فيها أدنى درجات التعقّل. إنه يتمثّل الدين على شكل صرخات وبكاء وآلام ومرثيات حزينة.

 ثمّة علاقة طردية، شهدناها في تاريخنا السياسي، إذ كلما أعلنت الدولة تخليها عن واجباتها الأساسية، سيتمظهر الدين، لا على شكل فطرة بشرية "فطرة الله التي فطر الناس عليها"، أي الدين بما هو دين روحاني خالص، وإنما تنبثق إحدى تجلياته على شكل ديانة شعبية لها طقوسها وأنشطتها الخاصة. يشير فالح عبد الجبار إلى نكتة تاريخية "في أعقاب نكسة حزيران، في الحرب العربية الإسرائيلية، أخذت مكانة الناصرية في الهبوط بينما تصاعدت مكانة التدين الشعبي والنزعة الإسلامية". وبالطبع لقد شهدنا أقسى من ذلك بكثير في "العراق الجديد"؛ فالحركة الدينية في العراق، ليست هي الدين بحد ذاته، ولا يمثل وجهة نظر أخلاقية لجماعة دينية معينة، بل عقيدة شعبية صلبة تتأرجح  بين شقين: من جهة كونها الماسكة بزمام السلطة، ومن جهة أنها ديانة شعبية لها حرسها الخاص ومقاتلوها الأشداء، تحت دعاوى دينية تتسم باليقين الصلب. وهكذا، كلما ابتعدنا عن الدولة وقانونها الأخلاقي رجعت الناس إلى ذاكرتها الشعبية التي يختلط فيها الغث والسمين.

ومعظم مقاتلي هذه الجماعات الحكومية - الشعبية قادمة من الأحياء الفقيرة، وهي ذات الجماعات التي كانت تمثل نبض اليسار، وانخرطت في صفوفه فيما مضى. فرغم تعددية الفضاء الشيعي وتنوعاته الاجتماعية، من مثقفين، وتنظيمات سياسية، ورجال دين، وتجار، وجماعات قبلية، يسجل الدين الشعبي انتصارًا ساحقًا، ويشكل القوة المهيمنة التي لا تقوى أي جهة أخرى بمنافستها. حتى سلطة القانون لم تعد تشكّل تأثيرًا يٌذكر. فالدين الشعبي يستثمر أدوات الدولة الحديثة وقيمها الديمقراطية لصالح كثافته البشرية، لكنه لا يقيم لها وزنًا إذا تعلّقت بالآخرين. ثمة تواطؤ واضح وجلي بين السلطة والدين الشعبي؛ فالدستور يقر أن دين الدولة هو الإسلام، وفي الحقيقة أن السائد والمهيمن هو الدين الشعبي بطقوسه ورموزه وأساطيره الخاصة. ولنا أن نتأمل، ما هو مصير الدين حينما يتحول إلى شكل تعبيري مشوّه بيد الدولة، خصوصًا إذا كانت دولة رخوة ترشَح منها كل أشكال الانفلات والتمرد.

لكن لا تتوقف المشكلة على رخاوة الدولة، بل تبدو في قمة عنفوانها وهي تتبنّى الدين كأيديولوجية تبريرية، فهي وإن توظّف الدين كأيديولوجية تبريرية، غير أنها لا تغرق في وحل الديانة الشعبية، بمعنى أن الدين في حالة هيمنة الدولة عليه يغدو ممسوكًا ومُهيمَن عليه، أما في حال غياب الدولة ينزل الدين إلى مراتبه الدنيا فيتحول إلى دين شعبي تتحكم به الجماعات. غير أن السلطة السياسية في الحاتين، حالة القوة والضعف، تتبنّى الدين. وبذلك يمكن العثور على نمطين من السلطة ودعاماتها الصلبة في منطقتنا العربية: سلطة الدولة وهي تتخذ من الدين كقوة سياسية واجتماعية ضاربة، وتعمل على تحييد أنماط الحياة الأخرى، وسلطة سياسية، بمعزل عن الدولة، أي تكون الدولة في حالة ضعف شديد في أغلب مفاصلها، فتتخذ من الديانة الشعبية غطاءً قمعيًا وتبريريًا يحد من حيوية باقي الحركات الاجتماعية، ويتوفر هذا النموذج في العراق.

 حتى لو ادعت الديانة الشعبية طهرانيتها وبراءتها من السلطة السياسية، لكنها ستعبر عن حقيقتها بجلاء تجاه أي حركة اجتماعية تعاكسها بالاتجاه. فالدين في حالة الدولة القوية والدولة الرخوة يغدو مأسورًا ومٌجَيَرًا من قبلهما، مع اختلاف تمظهراته. إن تمظهر الدين كأيديولوجية بيد الدولة يحوّل المؤسسة الدينية إلى غطاء تبريري لخطاب الدولة، بينما في الحالة الثانية يغدو أشد خطرًا، لأنه يغدو مهمينًا على الدولة في نسخته الأكثر تطرفًا، وهي الديانة الشعبية.

إن دين الدولة هو الأقرب للزمن الدنيوي، أو يمكن القول إنه النسخة "العَلمانية" العربية الرائجة. في حين تبدو الديانة الشعبية متأرجحة ومتذبذبة بين الدين والدنيا! بمعنى أن النسخة الدنيوية للدين ليست واضحة المعالم، والنسخة الدينية المحضة للدين تختفي معالمها لشدة حضور المخيال الشعبي. قد يكون الأفراد المنتمين إلى الديانة الشعبية لا يعيشون الزمن الدنيوي، بمعنى لا يخضعون "لعلمنة" الدولة الحديثة، ولا يعيشون الدنيا كـ"مزرعة للآخرة". إن زمن الديانة الشعبية زمن طقسي رتيب وممل، غير أنه يشكّل أقصى حالات النشوة لأفراده. والأغلبية الساحقة لمعتنقيه تنحدر من الأحياء الفقيرة، كما ذكرنا، فلا نشوة "روحية" يمكنها أن تعادل ابتهاج الفقراء في السير مشيًا على الأقدام من أحيائهم المُعدَمَة إلى مراكزهم الدينية. إذ تحولت أغلب مناسبات المواليد والوفيات الشيعية إلى طقوس تخضع لمزاجيات الديانة الشعبية. ومن العسير للغاية وقف هذه الحشود بفتوى دينية، فحتى لو حدثت فلن يمتثل لسلطتها الكثير.

 أصيبت بعض الجماعات "العلمانوية" في العراق بجائحة الاستبداد؛ فهي تحلم وتسوق لنماذج علمانية صارمة، ودائمًا ما يلوّح في مخيلتهم حلم الأتاتوركية المتأثر بدوره بالنموذج الفرنسي

إن ضعف مؤسسات الدولة، والعزوف عن فكرة العيش المشترك، وغياب نظام سياسي واضح المعالم ، وضعف الحركات الاجتماعية واتساع مساحة الفقر وتفشي الأمية، وقوة الاستبداد الاجتماعي، مقدمة منطقية للديانة الشعبية، فيسود نمط من التدين العقائدي الصلب بمعزل عن أي قيمة أخلاقية، ويتحول الدين إلى تأويلات شعبية متعسفة. فعلى سبيل المثال، إن الحشود التي تتمسك بالخرافات الشعبية المرتبطة بمراقد الأولياء الوهمية تجد رواجًا منقطع النظير بشكل لا يقارن مع أي ديانة! إذ لا زالت هذه القبور شاخصة ومحمية من قبل هذه الحشود ولا أحد يجرؤ للتشكيك فيها. المهم في ذلك كله أن الدين حاضر وبقوة بقشرته الخارجية التي تترجمها الديانة الشعبية.

اقرأ/ي أيضًا: معوقات إقامة النظام الديمقراطي في العراق

من جانب آخر، ولتعقيد المشهد العراقي، أصيبت بعض الجماعات العلمانوية بجائحة الاستبداد؛ فهي تحلم وتسوق لنماذج علمانية صارمة، ودائمًا ما يلوّح في مخيلتهم حلم الأتاتوركية المتأثر بدوره بالنموذج الفرنسي، وهي تعطي الذريعة للخطاب الشعبوي أن يعمّق الثقة بنفسه بشكل مبالغ فيه. على أي حال، مهما كان دور هذه الجماعات، فهو دور ضعيف مقارنة بهيمنة الديانة الشعبية وتحويلها إلى نمط حياة، بل ربما، تحويلها إلى نموذج تفسيري لفهم العلاقة بالدين! أي سيادة نمط من انماط التدين يفسر الدين طبقًا لرغباته. وهذا أمر طبيعي في بلد لم يعثر على أنماط حياة جديدة، ونماذج تفسيرية تسهم في إحداث القطيعة مع كل هذه الموجة الشعبوية التي تغزو العراق، في ظل مؤسسات اجتماعية قديمة تحظى بحراس أشداء تحمي قيم الاستبداد وتقاوم كل أشكال التغيير. فسيكون العراق، ولأجل غير مسمّى، محكومًا بهذا النمط من التدين، وسيمارس كل أشكال الهيمنة، طالما يتمتع بسلطة سياسية متواطئة معه، وستبقى عبارة "هيبة الدولة" أحجية يتسلّى بها السياسيون، وتبقى الجماعات العلمانوية تتغذى على أحلام اليقظة، وتقف بالضد من كل شكل من أشكال التنظيم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

خطاب السلطة.. الحياة بوصفها كابوسًا

الطائفية السياسية: إعادة نظر