من الطبيعي جدًا دفاع الناس عن عاداتها ومن ضمنها الاستبداد، لكن ليس من الطبيعي على الإطلاق أن تنعكس هذه التمثيلات على سلوك النخبة السياسية بحجة احترام العادات، ثم يتسابق الانتهازيون لتمثيل هذه العادات سياسيًا بحجة صونها احترامًا للمجتمع. لكنّ سلوك السياسيين لا يوحي بذلك الاحترام المزعوم، بدليل أنهم أول من يتنكّر لحقوق الناس الأساسية في منطقتنا. باستثناء الاستبداد طبعًا، فهو "الخليفة" الذي يحظى بتمثيل واسع النطاق في أدبياتنا السياسية، أما ما تبقّى من كرامة الناس وحقوقهم فلا يوجد لها ممثلون. لذا أن حجة تمثيل المجتمع، من هذه الناحية بالذات، كذبة كبيرة يراد منها إطالة أمد الطغيان عبر حجج واهية واستعمالات خطيرة باسم الديمقراطية. إذ يمكنهم اللعب على الوتر الطائفي باسم الديمقراطية، ويمكنهم القمع وتغييب الحريات باسم الديمقراطية، وكل هذا بالتأكيد سيجد مبرراته الاجتماعية بحجة أن الناس تخشى على عاداتها وتقاليدها.
نكتة غير مضحكة أن تكون ممثلاً حقيقيًا للناس إذا تعلق الأمر بكبح الحريات وتستمد شرعيتك من هذا الجانب
معلوم أن التغيرات الاجتماعية بطيئة للغاية وتستغرق عقودًا من العمل الجاد والمضني، لكنّ النخبة هنا عامل حسم أساسي في حمل مشعل التغيير. ولمجرد أن تسمع هذه العبارة التافهة "المجتمع العراقي لا يتغير"، فاعلم أنك أمام جلادين يتسترون بغطاء الديمقراطية، ولا يتورعون من تكرار هذه الشتيمة وإلقاء اللوم على المجتمع. كيف سيتغير المجتمع الأوروبي لولا البرجوازية، ومن للصين لولا ماو تسي تونغ والحزب الشيوعي الصيني، ومن كان يتصور تحول روسيا من مجتمع زراعي متخلف إلى دولة صناعية بفترة وجيزة؟ هؤلاء لم يلقوا اللوم على يكونوا متفرغين لإلقاء الشتائم على شعوبهم بحجة رفضها للتغيير، بل رفعوا مشعل التغيير وأحدثوا الفارق، بصرف النظر عن التباينات الأيديولوجية لهذه التجارب الثلاث.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا ننتظر من "ِشيعة السلطة" في الحكومة الخامسة؟
خلاصة الأمر: ينبغي أن تكون النخبة متسامية عن تفكير الناس العاديين؛ فإذا تمسّك الناس بالاستبداد ينبغي على النخبة أن تكافح لخلق نموذج مغاير، باعتبار أن عموم الناس لا يمكنها الائتمان على مصالحها السياسية بنفس القدر الذي تتمتع به النخب الواعية. إن الناخبين حين فوضوا ذلك السياسي لم يفوضوه لكي يكون فاعلًا انتهازيًا بقدر ما يكون فاعلًا سياسيًا يسهم ببناء وعي الناس السياسي، لا أن يسقطهم بالحضيض ويجرّهم إلى ساحته كلما احتدم الصراع الطائفي. وحتى لو سلمنا جدلًا من أن البنية الاجتماعية لديها ميل غريزي نحو الاستبداد، فعلى أقل التقادير ينبغي للنخبة أن تحسم الكثير من الملفات التي تهيأ البنى التحتية للتغيير لكي نلمس التمايز الحقيقي بين النخب، التي تتمثل بوعي عالٍ، وبين جماهيرها. لكن كل هذا لم يتحقق في تجربتنا العراق "الديمقراطي".
نكتة غير مضحكة أن تكون ممثلاً حقيقيًا للناس إذا تعلق الأمر بكبح الحريات، وتستمد شرعيتك من هذا الجانب. في مثل هذه الحالة عليك أن تتخلى عن الانتخابات وتعلن نفسك طاغية بدون خدعة التمثيل النيابي الذي يستمد شرعيته من الديمقراطية. وبما أن أدوات القوة، وإن كانت بمستوياتها الدنيا، بيد النخب الطائفية النافذة فمن المتعذر حصول تغيير في المستقبل المنظور.
على أي حال، كل الطغاة كانوا يظنّون أنّهم لا يموتون. ولكي يشرعنوا طغيانهم ويبدو مقبولًا ويتمتع بحاضنة واسعة من العبيد، ما عليهم سوى أن يسبغوا عليه شيئًا من رهبة التقاليد المقدّسة. وعند هذه العتبة سيبدو كل شيء مسوًّغَا ومقبولًا، خصوصًا أنّه مدعوم بذرائع مُلَفَّقَة من العيار الثقيل. لكن في نهاية المطاف يتساقط الطغاة ويبقى الوطن خالدًا. قد تبدو هذه الكلمات عزاءً شعريًا مغموسًا بمثالية مفرطة. والحقيقة أن ما أقوله نابع من صميم التاريخ وليس عابرًا له على الإطلاق؛ فقد تغيب الشعوب عن مسرح الفعل الحضاري قرونًا عِدّة، لكنها تظهر من جديد. أنظروا إلى الممالك التي توالت على حكم بلاد الرافدين؛ كلما ذهبت حقبة تاريخية جاءت غيرها، وكلما اندرست سلالة خلّفتها أخرى. فما يحدث في العراق لحظة من عمر التاريخ. وكالعادة سيمكر التاريخ بهؤلاء الذين يظنون أنّهم لا يموتون ويزدادوا غيًّا ويتم استدراجهم من حيث لا يعلمون.
اقرأ/ي أيضًا: