"ما غُزيَ قومٌ بعقرِ دارهم إلّا ذٌلّوا". علي بن أبي طالب.
ما يميّز الأسئلة الإشكالية هو تلك الطبيعة التوليدية التي تمتلكها، بمعنى أنها تكتنز الكثير من الأجوبة، وربما تتحول الأجوبة إلى أسئلة اخرى وهلمّ جرًّا. بعبارة أخرى، تفرز الأسئلة الإشكالية مشاكل على صعيدي الفكر والواقع، ثم يتدفق من خلالها كم هائل من الاحتمالات والإمكانيات والمنظورات الجديدة نستعين بها كأدوات تحليلية لفهم الواقع. وبهذه الطريقة تتسع دائرة الفهم عن طريق الخزين التاريخي الذي تحفظه الذاكرة الثقافية. فيغدو بمقدورنا المرور على كثير من الخيارات دون أن نبقى حبيسي الأسيجة العقائدية.
لو كان الاستعمار نهبًا للثروات وإضعاف السيادة فما الذي فعله صدام حسين، على سبيل المثال، لكي يمكننا العثور على ذلك الحد الفاصل بين الاستعمار والاستقلال؟
ما الكلمات التي نستخدمها اليوم لفهم واقعنا السياسي فيما يخص مفهومي الاستعمار والاستقلال؟ هل يا ترى هي نفسها قبل أكثر من عقدين من الزمن؟ ربما لا يختلف مفهومي الاستعمار والاستقلال من حيث المعنى، فلا زال الحقل الدلالي لهذين المفهومين يحتفظ، ربما، بقوته من حيث المضمون؛ قوى المركز تجتاح بلدان الأطراف عسكريًا وتعلن وصايتها على هذه البلدان بحجة التحرير، وثمة حركة وطنية تعلن مقاومتها ورفضها لهذا الاجتياح تحت أي مسمىً كان.
اقرأ/ي أيضًا: عالم يحكمه الأقوياء!
غير أن الموضوع لا ينحصر في فهم الدلالات فنحن في نهاية المطاف لسنا في ندوة أكاديمية ولا بصدد مراجعة معجمية لمعنى الاستعمار والاستقلال. بمعنى أن الوقائع تجري بالضد من هذا الضبط المعجمي التقليدي. قد نجادل في اتساع المفهومين في العقود الأخيرة وبات الاستعمار والاستقلال يتخذان صيغًا جديدة؛ فمفهوم الاجتياح استبدل بأدوات جديدة نظرًا للقفزات التكنولوجية الهائلة، ومفهوم الاستقلال، هو الآخر، اتخذ مدلولات جديدة؛ فمزيد من التعليم والتدريب والتنمية المستدامة تضعك في أعلى هرم المقاومة وهذا ما تفعله الصين، مثلًا، كنموذج مذهل لتغيير المسار التقليدي لمفهوم المقاومة.
ليس بالضرورة أن تستثمر جيشًا من الفقراء لحمل السلاح بوجه القوى العظمى التي تفوقك بأضعاف، فهذا الجيش يمكنك استثماره في التنمية الاقتصادية بدلًا من معركة خاسرة سيزداد فيها عدد الأرامل، والأيتام، والمعاقين، والخارجين عن القانون.
من الطريف والمحزن بنفس الوقت أنه مهما اتسعت المدلولات فستكون النتيجة كالاتي: فلا التعريفات التقليدية ولا المعاصرة تعكس الطبيعة التاريخية للصراع الدائر في منطقتنا، حيث ظلت الأنظمة العربية المستبدة، ومنها العراق بالتأكيد، وفيّة لبلاغتها السياسية المملة "لا صوت يعلو على صوت المعركة". والنتيجة: أرض محروقة، وثروات منهوبة، وحريات مستلبة، وإنسان معدوم. واتضح فيما بعد أن "السيد الرئيس" لا شأن له باستعمار ومقاومة إلا من حيث الحفاظ على منصبه الخالد!
بعد الهزائم والانكسارات التي مُنِيَ بها الشعب العراقي طيلة عقود نتيجة السياسات الجائرة من قبل الانظمة الاستبدادية، وصلنا إلى سؤال إشكالي ومعقّد، وهو؛ ما الحدّ الفاصل بين الاستعمار والاستقلال؟ ولا أظنه سؤالًا عاديًا، ذلك أنه يكتنز الكثير من الدلالات الغامضة حول الطبيعة التي تمكّننا للتمييز بين الاثنين.
ولو كانت ثمة مساحة كافية للتفرقة بين الاثنين من حيث النتائج والأهداف ربما هان الأمر علينا. لكنّ الناظر للوقائع السياسية خلال العقود الماضية قد يصيبه الإرباك لشدة التداخل بين الاثنين؛ إذ لو كان الاستعمار نهبًا للثروات وإضعاف السيادة فما الذي فعله صدام حسين، على سبيل المثال، لكي يمكننا العثور على ذلك الحد الفاصل بين الاستعمار والاستقلال؟
هل كانت الأنظمة الاستبدادية تعكس الطبيعة التاريخية للصراع الدائر بين اللصوص العالميين وبين القوى الوطنية التي، بحسب الفرض، تقاوم للحفاظ على الثروة والسيادة؟ ألم تكن حماقات الأنظمة الاستبدادية تتساوى من حيث التأثير السلبي على مقدرات الشعب العراقي وهو يعاني أشد حالات الاستلاب والقهر على أيدي أنظمته "الوطنية"؟
قد توصلنا الوقائع إلى قراءة مغايرة لفهم الاستعمار والمقاومة، ومنها، أن كلا المفهومين مختلفان من حيث الدرجة، أما النوعية فمن المرجح أنها لا تختلف كثيرًا. إذا كانت المقاومة هي ترسيخ الهوية الوطنية، والحفاظ على الثروات، وعدم المساومة على السيادة، واتخاذ الديمقراطية والحرية كشرعية سياسية وحيدة لإدارة الحكم، فلا الماضي ولا الحاضر يصادق على هذه الحقائق، وظل الشعب العراقي شعبًا بلا نخبة عقلانية تُسيّر شؤنه العامة، ناهيك عن الخسائر الفادحة التي تكبدّها نتيجة للسياسات الرعناء المصرّة بشكل غريب على التنكّر للعمل المؤسساتي، وقمع الحريات، وكراهية الديمقراطية.
أقصى ما يحلم به الكثير من العراقيين هو الاستيقاظ صباحًا بعيدًا عن طلقة كاتمة أو قناص ملثَم ينصب لهم كمينًا في أحد الأزقة المظلمة
هذا الكلام لا يحاول ترجيح أحد الكفتين على الاخرى، بمعنى أنه لا يريد للاستعمار الخارجي أن يغدو "واقع حال" بحجة فشل السياسات الداخلية، بقدر ما يريد إثارة هذه الإشكالية ووضعها موضع النقاش ( إن كانت ثمة عقول تصغي لمثل هذه القضايا الإشكالية)، ذلك أن الأجيال الجديدة باتت غير معنية بهذه الخطابات المفرغة من مضامينها، وهنالك تنافر حاد بين الكلمات والأشياء، بين الدال والمدلول، بين الوقائع والمفاهيم. إنه اغتراب خطير بين الذات وموضوعاتها. إن وقائعنا السياسية والاجتماعية في عالم والمفاهيم التي تفسرها في عالم آخر تمامًا. إن الديمقراطية العراقية في عالم ونخبنا السياسية في عالم آخر. وعلى هذا المنوال ظهرت لدينا فئات واسعة مغرمة بسحر "النموذج الإسرائيلي"، لأنها لم تعد تفرّق من هو الصديق ومن هو العدو، من هو الوطني حقًا ومن هو المحتل. لقد أصبح الكثير من العراقيين رعايا في وطنهم، وباتوا يتراكضون نحو الدول "الاستعمارية" للحصول على ملاذ آمن، فأقصى ما يحلمون به، هو الاستيقاظ صباحًا بعيدًا عن طلقة كاتمة أو قناص ملثَم ينصب لهم كمينًا في أحد الأزقة المظلمة.
اقرأ/ي أيضًا: