رسالاتان لديّ من أحمد عبد الصمد، الصحفي المقتول في ليل الجنوب البهيم أثناء انتفاضة تشرين قبل أكثر من عام ونصف. في واحدة منها كان يشكرني على اهتمامي كصحفي بمحافظته، البصرة. وقتها تعرّضت أحشاء 100 ألف بصري للتسمم، وكانوا يتظاهرون ويُقتلون، كان عبد الصمد يحس بالخذلان ويروي ما تفعله الميليشيات هناك، وكيف تبتلع المدينة التي ساهمت في ثقافتنا العراقية، أدبًا وسياسةً وغناءً، كما أنها علّمتنا الصراخ، وعلّمت الشباب أن يكسروا قيد "الطائفة الحاكمة" التي لا ينبغي تجاوز الغبن التاريخي الذي تعرضت له على أية حال. أقدمت البصرة على إنزال أكثر الأحزاب ادعاءً بحماية الطائفة إلى الأرض وقالت إنهم فاسدون، بائعو أوطان، وفي نفس الوقت؛ قتلة للرجال وهم بأحضان أمهاتهم وللنساء وهن يحملن جنينًا في بطونهن، كما حصل مع سارة طالب وزوجها حسين.
للبصرة علاقة قديمة مع القمع لا تقتصر فقط على كونها عاصمة العراق الاقتصادية، وإنما هي المحافظة الأولى التي لم تعترف بتوزيع ثروات الدولة العراقية على "ممثلي الطوائف"
يمكن الحديث عن احتجاجات مطلبية في العراق بدأت من عام 2009، ومع ثورات الربيع العربي أيضًا، في تظاهرات شباط 2011 خصوصًا، لكن قبل البصرة وتظاهراتها عام 2015، لم يكن الحديث عن تظاهرات شعبية بحامل وطني موجودًا بشكل كبير في المحافظات العراقية، تستطيع أن تصنف أي حراك ضمن الموجات الطائفية أو ما تريده الجماعة العقائدية لحقوق سياسية ستبقى ضمن أصداء الجماعة نفسها. تغلغلت ثقافة النظام السياسي "الطائفي" في كل مفاصل الحياة، حتى جاء الصوت الشبابي البصريّ ليقول إن هناك ما هو أكبر من الطائفة، هناك ما يمتد من مدينتهم ـ البصرة ـ إلى الموصل في مشترك واحد، اسمه الحقوق التي يريد النظام السياسي تغييبها ضمن تخويف الناس من عدو يتربص بالطائفة ومقدساتها وطقوسها.
اقرأ/ي أيضًا: وثق الانتهاكات وشخّص الطرف الثالث.. لماذا قتل عبدالصمد فورًا بعد هذا الفيديو؟
في تظاهرات 2018، كان الصيف لاهبًا، لا يحمله ولا يعرفه إلا البصري الذي أحرقت ملامحه شمس المحافظة، بينما من تركها أو ليس منها، يرى أن الصراخ من التسمّم والألم مؤامرة خارجية يجب أن يتمّ إسكاتها سريعًا. ذهب أحد آباء "جمهورية الصك المقدس" في وقت كانت أسرّة المستشفيات البصرية لا تكفي للمتسممين، وقال "سنلاحق أذناب أمريكا في كل مكان"، أرسل أحمد عبد الصمد كلامه إليّ، كان منزعجًا ومنفعلًا، كيف يمكن أن يتمّ الاستخفاف بالناس الذين لا يجدون ماءً للشرب بهذه الطريقة؟
لا بدّ من تكرار فكرة أن للبصرة علاقة قديمة مع القمع، لا تقتصر فقط على كونها عاصمة العراق الاقتصادية، وإنما هي المحافظة الأولى التي لم تعترف بتوزيع ثروات الدولة العراقية على "ممثلي الطوائف"، ودفعت بهذا الشأن أرواحًا ثمينة، أولها منتظر الحلفي الذي سقط في 2015، ثمّ التحق شباب كثيرون من المحافظات العراقية بالحلفي، صار لدينا صفاء السرّاي وعمر سعدون وفاهم الطائي وثائر الطيب، وأخيرًا، قدّمت البصرة مع أخواتها المحافظات وفي خضم أحداث تشرين خيرة شبابها، كان أبرزهم، ما نتحدث عنه في مقالتنا هذه، أحمد عبد الصمد ومعه صفاء غالي.
كانت المحافظة وأثناء صراخها في 2018، خرج قائد عمليات البصرة دون أن تحرجه عدسات كاميرات الإعلاميين ولم تثنه عن تهديدهم وجهًا لوجه حين حذرهم من نقل تظاهرات المدينة المنكوبة قائلًا: "التوقيف موجود". قال أحمد عبد الصمد وقتها إنه "مع أمثاله هم المقصودون بهذا التهديد". لكن لتستمر هذه التهديدات، ما قيمة الصحفي إن لم يواجه كارتيلات الفساد والسلاح بحقائقهم ويعبّر عن صراخ الناس المكتوم في الشوارع؟ لم يكن أحمد عبد الصمد ابنًا لمؤسسة واحدة، هو من نوعية الصحفيين الذين إذا عملوا يكونون أكبر من المؤسسة، يُمنع من تغطية أحداث ما، فيلجأ إلى آلية الهاتف، السيلفي والفيديوهات عبر صفحته في "فيسبوك"، المهم أن يقول إن دماء تنزف في المحافظة، إن صرخات هنا وهناك يجب أن يسمعها العراقيون في كل مكان.
بعد 2003، سمي النظام السياسي العراقي بـ"النظام الديمقراطي"، وبغض النظر عن تفصيل النظام وفقًا لتضاريس الطوائف ومن يقول إنه يمثلها، فقد بُنيت المؤسسات الإعلامية بناءً على الوعي الطائفي للجماعات المتحكمة بكل شيء بما يأتي من الاقتصاد العراقي، لكن صحفيين من أمثال أحمد عبد الصمد، ومعه قافلة المغدورين والمهددين والخائفين كسروا هذا التوزيع الطائفي، وصاروا أكبر من هذه المؤسسات في العراق، لم تكن هذه الأسماء ضمن التقسيم المحاصصاتي للدولة العراقية، لهذا، بدأت الرصاصات بهادي المهدي في 2011 كصحفي، ثمّ لم تتوقف عند عبد الصمد وهشام الهاشمي، وسائر الصحفيين والأصوات التي تنتظر رصاصات الميليشيات أن تفلق أدمغتهم في شوارع العراق، فيكونوا ضمن الفصول المتفحمة لحكايات البلاد الطويلة.
يُمنع أحمد عبد الصمد من تغطية أحداث ما، فيلجأ إلى آلية الهاتف، السيلفي والفيديوهات عبر صفحته في "فيسبوك"، المهم أن يقول إن دماء تنزف في المحافظة
في أيام الانفجارات، دائمًا كنت أفكر أن الموت فيها هو موت لا شخصي! وهو نمط من التفكير كان يرعبني بحق، كيف يقطّع الإنسان أوصالاً بهذه الطرق البشعة؟ كنت أتمنى أن أموت مثلًا وأنا أنظر لروحي تخرج رويدًا بينما أفكر بما سأتركه ورائي، وكيف سأتحول إلى طيف عابر وغير مهم في الحياة. كانت أمنيتي أن أدرك موتي وأعيش تفاصيله، أحس بفزع كل الأصوات والتدرجات الممكنة للتجربة النفسية والجسدية أثناء توقف القلب، وهي التجربة والدرس الأخير والحتمي لكل البشر، أعيدت هذه الفكرة مع مقتل أحمد عبد الصمد: هل يمنح "الكاتم" والاغتيال للإنسان أن يعيش موته؟! بماذا شعر عبد الصمد حين فتحت النار عليه؟ ماذا ستروي روح ريهام يعقوب عن لحظة مقتلها إن ترك لها الحديث؟
البصرة، بأحمد عبد الصمد وريهام يعقوب، والشباب الذين لم يبلغوا أحلامهم، تشبه حكاية العراق في محافظاته، هي نموذج معبّر عن كل ما يحدث. الدم الذي نزف في انتفاضة تشرين سال كثيرًا في شوارع البصرة قبل عام من اندلاعها، وفضح "الميليشيات" وصواريخهم واختطافهم وترويعهم للناس، كما أن الحكايات التي تُروى عن النظام الاستبدادي وكيف أرهب النساء وتعامل معهن في الـ35 عامًا الماضية، نفسها تكرّرت مع الميليشيات في البصرة بحوادث ترويها ريهام يعقوب بصيحاتها المذبوحة، وقبلها سارة طالب التي قتلوها وابنها في بطنها. ستقول البصرة بشوارعها التي تعج بالرجال المقيدين والمهددين إن حكاية العراق من جمهورية "الخاكي البعثي" إلى "خاكي الصك المقدس" واحدة، وإن اختلفت المرجعيات من القومية إلى حصن الميليشيات المقدس، الذي يعتبر من داخله آمنًا، بينما من خرج منه، سيكون مصيره مثل أحمد عبد الصمد، وبهذا المعنى، كل صوت مختلف في العراق، هو أحمد عبد الصمد، في بغداد والأنبار وإقليم كردستان، ولا بدّ أن تعي هذه الأصوات، أن نسيان عبد الصمد وأمثاله، هو استخفاف بالنضال العراقي ضد السلاح والعصابات المسيطرة على النظام والثروات. سنبقى نذكر، وفي كل مناسبة، أن ميليشيات قتلت أحمد عبد الصمد، كما قتلت سارة طالب وريهام يعقوب، كما تحاول تدمير البصرة لتكون نموذجًا لعراق لا صوت يعلو فيه على صوت السلاح و"الكواتم المقدسة".
اقرأ/ي أيضًا: