يُمكن الحديث عن الكثير من الانطباعات والنتائج المترتبة عن حادثة اعتقال عناصر من كتائب حزب الله في منطقة ألبوعيثة بواسطة قوة من جهاز مكافحة الإرهاب؛ لكن قبل ذلك، وفي وضع العملية في سياقها التاريخي فأنها الأولى من نوعها، واستهدفت الفصيل ربما الأقوى بين الفصائل المسلحة المقرّبة من إيران، والأكثر راديكالية.
الصراع الأمريكي الإيراني في العراق، ومطالب المتظاهرين، والوضع الأمني، هي مهام مفروضةٌ فرضًا على الكاظمي إضافة إلى التدهور الاقتصادي وجائحة كورونا
لم يَسبق لحكومة عراقية منذ صعود نجم الفصائل أن تعرّضت لفصيل بهذا الحجم والطريقة، لذا يُمكن وصفها بالخطوة الأكثر جرأة بغض النظر عن طموحات المتذمرين ومطالبهم المشروعة. وفي النقطة الثانية، فإن الكتائب لطالما اتخذت موقفًا فرديًا في العديد من المواقف، من بينها تنصيب الكاظمي نفسه، وأهمها، التهدئة العسكرية المقترحة مع الولايات المتحدة والحل السياسي الذي تبناه التيار الصدري وفصائل أخرى لإخراج قواتها من العراق. ويُمكن استرجاع الذاكرة إلى حادثة ساحة الخلاني والتضارب في البيانات بينهم وبين هيئة الحشد الشعبي، وكذلك محاصرة السفارة الأمريكية في بغداد ثم الانتقال إلى الجانب الآخر من الجسر رغم انسحاب كافة المشاركين من الفصائل. لذا؛ يمكن وصف الفصيل بالأكثر راديكالية وتمسّكًا بالخيار العسكري والتصعيدي.
اقرأ/ي أيضًا: كادت "تعصف" بالكاظمي.. 4 معلومات خطيرة عن "ليلة الرعب" في بغداد
لهذين المعطيين، كانت ردة الفعل قوية وسريعة. استعراضٌ عسكري واقتحام للمنطقة الخضراء واحتكاك بمواقع حكومية وأمنية بالتوازي مع حملة إعلامية شرسة في القنوات الفضائية وتويتر وفيسبوك، من أجل إطلاق سراح المعتقلين وقطع الطريق أمام الكاظمي لاستثمار الحدث والتمادي في استهداف الفصائل.
في السياق الحاضر للحادثة، تُسلّط تصريحات رئيس عصائب أهل الحق قيس الخزعلي الضوء على أفكار قادة الفصائل والأحزاب السياسية التي لا يُعلنون عنها، وإن كانت مفهومة للمراقبين. يُقلل الأخير من شرعية الكاظمي كونه "لم يُنتخب من الشعب بشكل مباشر"، ولا نعرف ما معنى ذلك دستوريًا بالنسبة لصلاحيات القائد عام للقوات المسلحة. ولأنه تصريحٌ لا قيمة له قانونيًا، فيُمكن تفسيره تفسيرًا سياسيًا/إعلاميًا ينسجم مع رؤية بعض الأحزاب للنظام عمومًا، وفي إطار الضغط والتهديد. وحديث الخزعلي للكاظمي بأنه ليس خيار المتظاهرين يُعزز هذا التفسير. والفكرة مفادها أنْ لا شرعية لك من الشعب بالانتخاب ولا من المتظاهرين بالانتفاضة؛ وبالتالي فعليك أن تلتزم بالقواعد التي حددها من أتى بك ـ أي نحن، الأحزاب ـ والمهام الموكلة إليك، ويلخّصها الخزعلي بالوضع الاقتصادي والصحي، ثم إجراء الانتخابات المبكرة ـ مطلب المتظاهرين. يجب أن يستخدم الكاظمي صلاحياته الدستورية لهذه الأهداف وألّا يخرج عن رقع الشطرنج المرسومة له. يجب ألّا يخرج عن السياق السابق. يجب أن "يغلّس" كما فعل رؤساء الوزراء السابقين ـ حسب وصف الخزعلي ـ حين تتطاير الكاتيوشا هنا وهناك.
لكن الواقع غير ما يُريد وتريد بقية الأحزاب والفصائل. إن الصراع الأمريكي الإيراني في العراق، ومطالب المتظاهرين، والوضع الأمني، هي مهام مفروضةٌ فرضًا على الكاظمي إضافة إلى التدهور الاقتصادي وجائحة كورونا. والمَهمة الأولى تشترط على رئيس الحكومة مَنع استهداف البعثات الدبلوماسية والتحالف الدولي الذي يُحّرجه أيّما إحراج في الحوار الاستراتيجي، والمزمع استئنافه في تموز/يوليو المقبل، ناهيك عن تأثير هذا الحوار ومستقبله على الملفات الأخرى: الاقتصادية والأمنية والصحية. إن الكاتيوشا تهز أرضية الحوار بين بغداد وواشنطن وبالتالي العلاقة بشكلها الأوسع، التي تؤثر بدورها على ملفاتٍ من شأنها أن تُطيح برأس الحكومة قبل أوانه. من هنا سيكون التباين واضحًا بين الطرق التي يُريد الكاظمي سلكها، وتلك التي تحاول الفصائل من خلالها المحافظة على نفوذها العسكري والسياسي والاقتصادي. لقد وصلنا إلى التقاطع وستُجبر الأطراف كلها على الاختيار بين الطرق.
لا زلنا في مرحلة التوتر غير المستقر، ولم نخرج بعدُ، سواءً لعوامل خارجية تتعلق بما تحدثنا به سابقًا من قواعد للاشتباك وغيرها، أو داخلية تتعلق بتوازن القوى وضعف جهاز الدولة في احتواء أي تمرد عليها، أو كلاهما. ولعل الحديث عن خروج المعتقلين جميعهم (رغم أنهم ضُبِطوا بمبرزات جرمية) يؤكد وجودنا في تلك المرحلة. ولكن، لن تمضي هذه الحادثة الفريدة دون التحرّك والزحف نحو أطراف مرحلة التوتر، ورغم خروجهم من الاعتقال، فأنهم أُعتقِلوا. إن ذلك حدثٌ بذاتهِ.
نقترب رويدًا من حتمية الاختيار بين الدولة وخيار المقاومة أو الميليشيات بالنسبة للكتل التي تمتلك أجنحة مسلّحة
لقد فعل الكاظمي ما يُمكنه فعله دفاعًا عن نفسه أولًا وتحرّش بالكتيبة الأشرس، كما فعلت هي والفصائل بما وسعها وأوصلت له رسائل عدّة تؤكد وجوب احترامها كجسم في داخل وخارج النظام يتحرّك بإرادته ووفق أجندته. كان الفعلُ قويًا وردة الفعل حاسمة وستكون الفاصلة مستقبلًا. جرّب الطرفان ما يُمكنهم عمله ورموا بعض أوراقهم المُهمة. نقترب رويدًا من حتمية الاختيار بين الدولة وخيار المقاومة أو الميليشيات بالنسبة للكتل التي تمتلك أجنحة مسلّحة. تقول الكتائب إن سلاح المقاومة لن يُسحب إلا في عهد الإمام المهدي، وتلمح العصائب للكاظمي بأن ليس من شأنك التدخل في العلاقات الدولية المصيرية، وهما موقفان يتكاملان ليتنافران بالضرورة مع الحكومة "الفتيّة" ومن خلفها واشنطن والداعمين محليًا وإقليميًا. إن الاتجاه نحو إجبارية الاختيار بين سلطة الدولة وسلطة السلاح يوصلنا إلى حافّة مرحلة التوتر، ما يعني إما مغادرتها نحو صِدام عنيف، أو حل مستدام.
اقرأ/ي أيضًا: